" السلطة تحديات التغيير…"
الأنوال بريس - الدكتور عبد العزيز اليخلوفي -
قبل أربعة عقود من الزمن، تعرفنا على الكاتب والصحفي الأستاذ محمد أديب السلاوي ناقدا فنيا في الصحافة الوطنية المغربية، وفي السبعينات والثمانينات تعرفنا على إصداراته الأولى في المسرح والفنون التشكيلية والشعر والقصة والرواية، وهي الإصدارات التي ساهمت إلى حد كبير في التعريف بالرصيد المغربي من هذه الفنون، وفي إغناء النقاش الثقافي حولها داخل المغرب وخارجه.
وقبل بضع سنوات، ولج ناقدنا الموفق، مجالا معرفيا مغايرا، أكثر قربا من الصحافة والسياسة والمجتمع المدني، فأصدر سلسلة من الموضوعات، تعالج بالكثير من الرصانة والمعرفة قضايا بعيدة عن “الثقافة الفنية”، ولكنها في منتهى الأهمية والحساسية بالنسبة لمشهدنا السياسي/ الاجتماعي، مثل المخدرات والرشوة وأطفال الفقر والفساد والانتخابات، حيث أبان عن جانب آخر عن مواهبه ومعارفه وثقافته.
ويجب الاعتراف بأن الأستاذ محمد أديب السلاوي، الذي أتشرف وأعتز بتقديم كتابه الجديد عن “السلطة وتحديات التغيير”، إلى قراء اللغة العربية، أنه استطاع من خلال كتبه السياسية/ الاجتماعية، فك العزلة عن قضايا، اتخذت لزمن طويل صفة “الطابور المحرم” في التناول الإعلامي، كما في التناول الأكاديمي، حيث وافق في تعريتها وتقريبها إلى الملتقى، من خلال تفكيكها وإعادة تركيبها، وفق منهجيته البسيطة والسهلة. وأكيد، لم يأت خوض الأستاذ المشهد الإعلامي المغربي، تحمل خلال الأربعين سنة الماضية مسؤوليات مهنية عديدة في الصحافة المغربية والدولية، وفي الإعلام المؤسساتي، وأصدر العديد من المطبوعات الإعلامية، تراكمت تجربته في التعامل مع الملفات الشائكة المطروحة على مغرب يسعى إلى الانتقال والتجديد والدمقرطة، وتعمقت نظرته في المسألة الاجتماعية/ السياسية، وإلى ما يعتريها من إشكالات بالكثير من الحنكة والاحترافية.
من حيث التصنيف، ينتمي هذا الكتاب إلى فصيلة كتبه السياسية، الاجتماعية، يتخذ نفس المنهج البسيط والسهل، الذي طرح به القضايا السابقة: هل دقت ساعة الإصلاح؟ الانتخابات في المغرب إلى أين؟ المخدرات، الرشوة، أطفال الفقر، ويتبني نفس الخطاب المعقلن في التحليل والمعالجة.
يقوم الصحفي/ الباحث، في هذا الكتاب بتشريح السلطة التي ارتبطت لزمن طويل بالهاجس الأمني وتحولت إلى سيف على رقاب شعب يؤمن بالحرية، ويناضل من أجل الديمقراطية ويسعى إلى التنمية.
في نظرنا يتجاوز هذا الكتاب، تصنيفه البيوغرافي، في ذلك لأنه يطرح مسألة السلطة في بلادنا بثقلها وحساسيتها، من خلال فضائها الواسعة والشاسع، بمنهج واقعي، يعتمد كثافة المعلومات ودقة الاستقراء والتحليل واستقطاب الإفادات والمراجع والشهادات وطواعية اللغة وجماليتها.
الكتاب لا يكتفي، باللقاء الضوء على مفاهيم السلطة في الدين واللغة، ولا بالغوص والتمعن في الآليات المخزنية. ولكنه يذهب أبعد من ذلك، إلى تشريح أحد نماذجها البارزة بجرأة وموضوعية، وهو ما يعكس إلى حد بعيد إلمام الكاتب ومعرفته الوافرة بإشكالية السلطة، وبالتحديات التي تواجه تحديتها ودمقرطتها، في مغرب يتطلع إلى الاستقرار، إلى ترسيخ دولة القانون.
وعلى أن الكاتب حاول الحفاظ على حياده كإعلامي باحث، ولكن لم يمنعه ذلك من الوصول إلى خلاصات تعكس ميولاته السياسية، وانحيازه المطلق لأطروحات المجتمع المدني حول السلطة وإشكالياتها، يعتبر مؤلف هذا الكتاب، أن ثقة المواطن في السلطة، ليست أمرا مستحيلا، إلا أن المواطن
لا يمكنه أن يقدم صكوك هذه الثقة مجانا، وإنما بناء على ميثاق ضمني يضمن حقوقه، ويعتبر أن مفهوما جديدا للسلطة، لا يمكن اختزاله في تغيير الأشخاص. ولكن في تغيير الثقافة المخزنية، التي طبعت مؤسسات السلطة وآلياتها بطابعها المتجمد، لفترة طويلة من الزمن المغربي…
إن هذا الخطاب يجعلنا نميل إلى تصنيف هذا الكتاب ضمن إطاره السياسي/ الإصلاحي، الذي يستمد قوته وموضوعية من لحظته التاريخية الراهنة، ومن حمولاتها السياسية الوازنة.
إنه بكل تأكيد، كتاب يستحق القراءة، ليس من أجل خطابه الواقعي فحسب، ولكن أيضا من أجل جرأته في طرح التحديات التي تواجه “سلطة” بلد يتأهل للانتقال والتغيير بالكثير من التبصر والثقة.
احتلت “السلطة” كقضية ومفهوم وإشكالية، حيزا واسعا في الأدبيات الحزبية المغربية وفي اهتمام الباحثين والدارسين والإعلاميين، كما في الدراسات الأكاديمية، السياسية والقانونية، خلال العقود الأربعة الماضية.
ويعود هذا الاهتمام بالدرجة الأولى إلى التحول الذي عرفته “السلطة” خلال هذه العقود حيث تحولت على يد بعض “رجالاتها” إلى ديكتاتورية عنيفة، أشاعت ثقافة العنف والفساد والرشوة، وحمت الاستغلال والزبونية والمحسوبية والاغتناء اللامشروع، وخدمت أهداف ومصالح طبقة طفيلية، تنامت جذورها الموروثة بعصور الانحطاط، لتصنيع الخرائط السياسية وتشكل البرلمانات والحكومات بالشكل الذي يحمي مصالحها.
إن السلطة في المغرب، وحتى في الوقت الذي تصادمت فيه مع الضغوطات الدولية من أجل تحقيق حد أدنى من الديمقراطية وحقوق الإنسان والاستقرار الاجتماعي في البلاد، واجهت الأمر بحدة وعنف وتحد، من أجل بقائها على “السيادة” ، وصنعت حكومات وبرلمانات على “ذوقها”. وهو ما أدى إلى أزمة ثقة خائفة في البلاد، بعد أرعة عقود من التجاذب والصراع.
ولاشك أن إقالة السيد ادريس البصري الذي استمر وزيرا للسلطة ربع قرن من الزمن المغربي وإعلان ملك العهد الجديد محمد السادس، عن ضرورة إعطاء مفهوم جديد للسلطة (12 أكتوبر 1999) وفق ما تقتضيه دولة الحق والقانون، قد بدد توترات طويلة مثقلة بالتجاذبات، وأعطى إشارة قوية للأمل، ليحتل موقعه في نفوس المغاربة الذين داهمهم اليأس والقلق، والذين ذهب اليأس بحياتهم.
إن إشارات الملك الشاب في خطاب الدار البيضاء (12 أكتوبر 1999) أعطت الضوء الأخضر لإعادة هيكلة العلاقة بين الدولة والمجتمع، من خلال الجسور والقوانين التشريعية، وأعادت الثقة بينهما من خلال تشاركهما في بناء مغرب جديد/ حديث في تطلعاته وإنجازاته. فكان القرار الملكي بإبعاد ادرس البصري عن وزارة الداخلية (في ليلة الألفية الثالثة)، لا يهدف فقط إلى إعطاء مفهوم جديد للسلطة، ولكن بالدرجة الأولى، كان يهدف إلى مصالحة المواطن المغربي مع هذه السلطة، وهو ما يعني تجاوز النظرة الأمنية والإدارية الجافة، التي اعتمدت عليها دولة المخزن لفترة طويلة. وهو ما يتطلب إضافة إلى الإرادة القوية للملك الشاب، فتح أوراش حقيقية لمواجهة تحديات الانتقال من العقلية المخزنية التي استباحت في الماضي كرامة المواطن وحقوقه، إلى “العقلية الديمقراطية” التي تحمي للمواطن كرامته، في دولة المؤسسات/ دولة الحق والقانون.
إن الأمر هنا، لا يتعلق فقط بتجديد آلية السلطة، ولكنه أساسا يتعلق بالتحديث الضروري “لدولة المخزن” وانتقالها الفعلي، إلى دولة عصرية في هياكلها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، تضبط سلطاتها وفق مفاهيم الديمقراطية الحديثة، ذلك أن انخراط المغرب الجديد في الديمقراطية كاختيار مجتمعي، يجعل السلطة حجر الزاوية في أي مشروع إصلاحي، تنموي يساير التطورات الاقتصادية والاجتماعية التي تشترطها هذه الديمقراطية في حدودها الداخلية والخارجية.
هكذا نجد في مناقشتها للدعوة الملكية/ تجديد مفهوم السلطة، تربط مختلف الفعاليات السياسية والإعلامية والحقوقية هذه المسألة بتوسيع آفاق الديمقراطية وتنظيف ساحة الإدارة العمومية من نفوذ
الفساد، معتبرة أن الطريق الصحيح والواقعي لإعطاء السلطة مفهوما حداثيا وجديدا، هو بناء إدارة وطنية خالية من الفساد، والمفسدين، قائمة على أسس الديمقراطية ودولة الحق والقانون.
في هذا الاتجاه أكد خطاب السياسي المغربي في مختلف توجهاته، على ضرورة أن تجسد السلطة طبيعة النظام السياسي في لبلاد، وهو ما يعني ضرورة تحول هذه السلطة، إلى قراءة يومية مستديمة لسلوكيات أطرها/ رجالها وإدخال تعديلات جوهرية في قوانينها وفي سلوكياتها الأخلاقية والسياسية وفي طبيعة ثقافتها في نفس الآن.
يتخذ هذا الكتاب من دعوة الملك الشاب جلالة محمد السادس حول “تجديد مفهوم السلطة” منطلقا لتفكيك هذا المفهوم وإعادة تركيبه، وفق أطروحات الباحثين وأطروحات المجتمع المدني، التي مازالت حتى الآن مفتوحة على أوراش، تبحث عن “السلطة البديلة” الجديرة بالمفهوم الحداثي الجديد، وبتطلعات العهد المغربي الجديد، وقد اعتمدت هذه المحاولة على منهج بسيط، أفرز “كتل الخطابات الرسمية وغير الرسمية” حول إعادة بناء السلطة في المغرب الجديد، وأعاد توزيعها على أربعة محاور، هي في الحقيقة مداخل أساسية لمفاهيم السلطة المتعددة، تحاول إعطاء صورة تقريبية لإشكاليتها في مغرب اليوم، وتلقي الضوء على التحديات التي تواجهها في بعض جوانبها السياسية والإدارية كما سيلاحظ القارئ فإن مسألة تحديث السلطة، مسألة ممتدة عبر كل الأجهزة والمؤسسات، وهو ما يجعل تحديثها وتحديد مفاهيمها، مسألة في منتهى لتعقيد… والخطورة، وعلى أن الأمر يتجاوز قليلا العمل الصحفي/ الإعلامي، فإن هذا الملف/ الإضاءة، يحاول جهد الإمكان، توظيف الأفكار السياسية الاجتماعية والثقافية والإعلامية التي تترجم إلى حد ما، اهتمامات وتوجهات الري العام الوطني نحو هذه المسألة، ويعكس في ذات الوقت، تطلعات نخبته المهنية بالتغيير والتحديث.
وتجب الإشارة هنا إلى أن هذا الملف، ينتمي من حيث منهجه وأسلوبه، إلى صنف الملفات السابقة التي نشرتها مؤخرا عن المخدرات والرشوة والإصلاحات السياسية والفقر والانتخابات، فهو حلقة من سلسلة ملفات إعلامية اختارت منذ البداية، المساهمة في مسلسل التغيير الذي تنشده القوى الحية والمؤمنة في البلاد.
وعلى أنه لا يزيد عن كونه محاولة، فإن يطرح نفسه “كورقة إعلامية” في النقاش الدائر حول “السلطة البديلة” وما يصاحبها من شروط وتحديات، معتبرا أن خروج السلطة من واقعها المتردي، مازال يحتاج من النخبة المغربية مشاركة أكثر فعالية، بالإضافة إلى العمل والتضامن والجرأة… وليس هذا بعزيز عليها.
أوكي..