بعيدا عن لغةالحظ والتقواس الشأن الرياضي مسؤولية وليس لعبة

الأنوال بريس - فؤاد هراجة كاتب وباحث أكاديمي -
كلنا نتذكر أن الدولة هذه السنة قد اعترفت ولأول مرة في تاريخها بفشل مشروعها التنموي الذي رصدت له ملايير الدراهم طيلة عقدين من الزمن، لكن هذا الاعتراف لم يكن سوى محاولة لطي صفحة الفساد والفشل التي أزكمت حياة كل المواطنين وأزَّمَتْها. ولأن ذاكرة المجتمع مثقوبة من جهة، ومنهكة ومشبعة (saturé) بالمشاكل من جهة أخرى، فإنها تحتاج أي هذه الذاكرة بين الفينة و الأخرى إلى من ينعشها (rafraîchir) لتستأنف وظيفة الاستحضار التي يحجبها الحاضر المستعصي على الإمساك.إن المواطن العادي يشعر دائما بثقل وعسر أمام التمارين السياسية إما خوفا من اتخاذ المواقف، أو هروبا من تحمل المسؤولية.
لهذا فإننا نحتاج إلى نوازل واقعية وبسيطة، ولصيقة بمعيش الأفراد. وقد لا نجد البتة مثالا أقرب إلى الناس من كرة القدم. هذه اللعبة التي يختزلها الكثيرون في اختيار فريق ومدرب، ولعب مقابلات ومتابعتها من طرف الجماهير فرحا او حزنا.
لكن وراء أكمة هذه اللعبة ما وراءها من سياسة، وميزانية، ومؤسسات ومسؤوليات، لا يمكن رؤيتها إلا من وراء حجاب 90 دقيقة أو اشواط إضافية أو ضربات الجزاء.
وبعد الإخفاق والفشل المتوقع الذي لَزِمَ المنتخب الوطني المغربي لكرة القدم، والذي اختزله وزير الرياضة والشباب في عنصري "المناخ" و"التقواس"، وهما بالمناسبة مفهومين جديدين على قاموس التدبير وآليات تقويم وتقييم الأداء، فبعد هذا الإخفاق لا يسعني إلا أن أعري وأكشف خيوط اللعبة الحقيقية حتى يكون المواطن على علم أننا لسنا أمام مجرد لعبة فيها خاسر ورابح، بل نحن إزاء قطاع عام تابع للدولة يدار وفق سياسة عامة وبأموال عامة تقتطع من أموال الشعب، الأمر الذي يقتضي المراقبة والمحاسبة وتحمل المسؤولية.
من هذا المنطلق سأبسط ميزانية الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم، وسأبين مصادر تمويلها، ثم مسارات صرفها.
تبلغ ميزانية جامعة كرة القدم 800 مليون و38الف و69 درهم، أي ما يفوق 80 مليار سنتيم. ثلاث أرباع هذه الميزانية والتي تصل إلى 62 مليار و600 مليون سنتيم مصدرها: المكتب الشريف للفوسفاط -صندوق الإيداع والتدبير -المكتب الوطني للسياحة -وزارة الشبيبة والرياضة.
ثم هناك ثلاث مصادر أخرى وهي: اتصالات المغرب مليار و700مليون سنتيم، ودخل المباريات الذي يصل 740مليون سنتيم، ثم مداخيل النقل التلفزي الذي يصل مليار و100مليون سنتيم. أما تبقى عن 80 مليار سنتيم تموله الفيفا بما يقارب 8مليار سنتيم، والكاف بمليار و700 مليون سنتيم.
هكذا يتبين أن 80٪ من ميزانية الجامعة تختصم من مؤسسات تابعة للدولة أي تختصم من المال العام. والسؤال إذا كانت قطاعات عمومية حيوية تشتكي من فقر في الميزانية، ونحن نهدر كل هذه الأموال الطائلة ومنذ سنوات دون طائل ودون نتائج، فلماذا الإصرار على هدر الأموال؟
إذا كان جزء معتبر من هذه الميزانية يوزع على الفرق المحلية والعصب ولا تقدم هذه الأخيرة ولو لاعب واحد للمنتخب الوطني، فَلِمَ هدر المال العام على هذه الفرق ما دام أن الجامعة تقبل مسبقا من المدرب الوطني اعتماده على اللاعبين الذين تأطروا في الخارج؟ مع العلم أن المنتخبات الوطنية لكرة القدم تكلف الدولة 23مليار و330 مليون درهم!
ويكفيك أخي المواطن أن تعلم أن المنتخب المحلي في الشان، والمنتخب الأول في المونديال كلفا خزينة الجامعة 13 المليار و950 مليون سنتيم. كل هذه الأموال دون طائل أو نتيجة تذكر، هذا إن سلمنا أنها قد تدفقت في القنوات السليمة! أما الجامعة بموظفيها فهي تكلفنا 4 مليار و490 مليون سنتيم.
في ظل هذه الاخفاقات المطردة، والهدر للمال العام، يقف وزير الشبيبة والرياضة في مؤسسة البرلمان، ليحدثنا عن لاعب و23 مكالمة، والمناخ، والتقواس...، إنه العبث بكل المقاييس! إنه الاستهتار بعقول المواطنين! إنه الاستخفاف بسلطة الشعب! إنه هدر للزمن السياسي! إنه جهل بمعنى المسؤولية!
أن تؤخذ الأموال من فوسفاطنا، وأموالنا المودعة في صندوقنا، ومن عائدات السياحة، وميزانية وزارة الشباب، ومن ضرائب المواطنين على التلفاز التي تنفخ بها فواتير الماء والكهرباء، ومن اتصالات المغرب التي تمتلك الدولة 51٪ من أسهمها ويؤدي المواطن فواتيرها...، أن نسمح بكل هذا العبث أمام تنامي البطالة، والخصاص المهول في قطاعي الصحة والتعليم، وأمام الفقر والهشاشة المنتشرين كالهشيم في ربوع الوطن، وأمام موت امرأة محمولة إلى المستشفى من دوار إلى أقرب مدينة على حمار، وأمام موت نساء بالصويرة يتدافعن على كيس طحين، وأمام موت طفلة بسبب لدغة عقرب في غياب مصل في المستوصف، وأمام اعتقال شباب بالريف وجرادة وزجهم في السجون لأنهم يطالبون بالعمل والمدرسة والمستشفى، وأمام وأمام...، لا يستسيغ أي عاقل أمام كل هذا أن يحزن على ضياع ركلة جزاء، وراءها ضياع المال العام، وراءها ضياع الزمن السياسي للوطن، وراءها ضياع الأجيال في البطالة، وراءها ضياع زهرة عمر شباب في السجون، وراءها ضياع كل الوطن إذا نحن استحضرنا باقي الجامعات بل باقي الوزارات وباقي المؤسسات.
اعذروني لقد سئمنا من تحميل رجال الدولة المسؤولية وقد آن الأوان لتحميل الشعب مسؤولية صمته وتواطئه على هذه المنكرات، فقديما ردد المغاربة مثلا ربما اتخذه المسؤولون الكبار في هذا البلد شعارا لهم وهو: "لي لقا الضحكة أوما ضحك عليها، ربي كايحاسبو عليها".
فنحن عندهم مجرد ضحكة تستوجب من مسؤولينا هذا الهزل والعبث. فما علينا إلا أن نواجه هذا المثل بقولة الإمام علي بن ابي طالب كرم الله وجهه: " ما خانك الأمين، ولكنك أئتمنت الخائن"
أوكي..