المعزوفة السياسية، ولازمة الانسحاب من 20 فبراير

الأنوال بريس -فؤاد هراجة -
يأتي هذا المقال في سياق التفاعل مع تعليق ردت فيه الفاضلة Mina Farah على دعوتي الفضلاء السياسيين لحتمية تأسيس جبهة سياسية لمجابهة الاستبداد، فحالتني على حدث انسحاب جماعة العدل والإحسان من حركة 20 فبراير وما يستدعيه هذا الأمر من شك في مصداقية الدعوة إلى جبهة سياسية، ثم تساءلت كيف يمكن ان نثق في الجماعة وقد أخلفت العهد مع الشعب بفعلها هذا؟ ولأن هذا الموضوع أصبح لازمة تتكرر كلما ذكر الحوار والميثاق، والتواصل والتقارب، وجدت نفسي مضطرا للتفاعل مع هذا الإشكال استدلالا وبرهنة لتأكيد تبرم أصحاب هذا الرأي من الصواب، فجاء تدليلي على النحو التالي:
سيدتي الفاضلة، مينا فرح،
أحترم وجهة نظرك، التي أعتبرها مجرد تأويل وتقديم فرضيات لحدث انسحاب جماعة العدل والاحسان من حركة 20 فبراير،
وبما انك أيتها الفاضلة بسطت موضوعك معتبرة أن الجماعة قد خانت الشعب بانسحابها من حركة 20 فبراير، وهو حقك في التعبير الحر عما تعتقدينه صوابا، أستأذنك أن أمارس حقي في التعبير، بالتفاعل مع ما ورد من دعاوي في تعليقك، واتمنى ان تبادلينني نفس الاحترام وانا أقدم وجهة نظري.
بداية، أتحدى أيا كان أن يثبت لي لقاء او وثيقة تم فيها التواثق اوالاتفاق على جبهة موحدة قبل تاريخ 20 فبراير أو بعده! وانا أجزم أن الفرقاء يساريين وإسلاميين وحقوقيين... لم يكن بينهم أي تعاهد او تعاقد سياسي حول تدبير مرحلة حراك 20 فبراير. كل ما حدث أن مجموعة من الشباب الذين لهم انتماءات مختلفة، وتفاعلا مع ما كان يجري ويقع في تونس وليبيا ومصر واليمن، اجتمعوا وأعلنوا عن ميلاد حركة 20 فبراير، وحددوا موعد مسيرة وطنية بالعاصمة الرباط. وخلال اسبوع الاعلان عن هذا الموعد، بدأت مجموعة من التنظيمات تعلن دعمها وحضورها للمسيرة. مع العلم انه تم إقصاء الجماعة فيما سمي آنذاك بالتنسيقية الوطنية. ومع ذلك اعلنت الجماعة دعمها المسيرة ونزلت بقوة. لم يكن وقتئذ أي اتفاق أو التزام بين الأطراف المشاركة، فكل منها نزل بمحض اختياره. وبعد تطور الحراك وتوسعه في التنسيقيات المحلية وتوالي المسيرات بالرباط أصبح لزاما على الجميع عقد اجتماعات غايتها السهر على كيفية تسيير الوقفات والمسيرات وتحديد المواعيد والأماكن المناسبة، وتقاسم المهام واللوجيستيك، ولم تكن بتاتا هذه اللقاءات في إطار ميثاق جبهة موحدة. واسمحيلي أن أذكرك أيتها الفاضلة وانت أدرى مني بذلك، أن الجبهة السياسية تقتضي سلسلة من الحوارات والجلسلات التي يتم تتويجها بورقة ميثاق او اتفاق توقعها جميع الأطراف. والحال ان هذا الأمر لم يحصل قطعا، أطرح السؤال التالي: هل الفعاليات الشبابية تشاورت مع الجماعة حين إعلانها عن حركة 20 فبراير؟ بالجزم لا ! هل عاتبت الجماعة هؤلاء الشباب على إستبعادها؟ طبعا لا ! والسبب أن هؤلاء الشباب أحرار في مواقفهم واختياراتهم. وبما أن لكل الحق في تقرير خياراته ومواقفه السياسية، فلماذا سيكون لزاما على الجماعة إخبار فرقاء الحراك بالانسحاب من الحركة، في غياب أي رابطة أو معاهدة او توافق يلزمها بذلك.
مع العلم أن الجماعة سجلت أثناء الحراك طرفا كان يعمل جادا على تسييج وتسقيف الحراك وفق رؤيته السياسية المبنية على خيار الملكية البرلمانية، فرُفعت لافتات وشعارات تؤكد هذا الأمر، وهم أحرار في مذهبهم ومسعاهم. في المقابل كيف تطلبين من طرف سياسي لم يتم التشاور معه حول سقف الحراك، ان يلتزم بالحضور في الشارع على طول الوطن بكل مناضليه، ليخدم أجندة أطراف سياسية تؤمن بالاصلاح من الداخل، وتمتطي الشارع لتحقيق مآربها ؟ سنكون أغبياءَ السياسةِ إن وقعنا في هذا الفخ. إذن، انسحابنا هو رهين بإرادتنا السياسية المستقلة، والمستحضرة لمآلات الوضع السياسي الإقليمي والدولي، و المتمثل حسب تحليلنا حينئذ للمناخ الدولي، عزم قوى الاستكبار العالمي بث الفوضى في دول ثورات الربيع العربي، واستهداف الإسلاميين المعارضين واجتثاتهم من الساحة السياسية. وهو فعلا ما حصل في مصر واليمن وليبيا وسوريا، ونجت منه تونس لأن الإسلاميين فضلوا الابتعاد عن دائرة الرئاسة.
هذه القراءة للأوضاع أكد لنا واقع الحال صحتها، وأننا كنا محقين في الانسحاب لكل الأسباب التي ذُكِرَت. فالمستهدف الأول من قبل الدول الامبريالية في هذه المرحلة بالذات هم الإسلاميون، وإن اقتضى الأمر جمع كل القوى ضدهم والتحالف عليهم.هذه قراءتنا و لا نلزم أحدا ان يعتقد في تحليلنا، كما لا نقبل ان يلزمنا أحد بتحليلاته وتأويلاته ومواقفه.
ثم علينا أن نستحضر بأن الجماعة وإنْ انسحبت من حركة 20 فبراير، فإنها لم تنسحب من الشارع، ولم تتوان عن دعم المظلومين، بل شاركت في كل القضايا التي تحركت في الشارع، والكل يعترف طوعا أو كرها أن أي مسيرة تقصى منها الجماعة تكون محدودة التأثير لضعف حجمها. لقد واصلت الجماعة دعمها وتأييدها لكل القضايا الشعبية الفئوية والقطاعية والمهنية، والجهوية...، والكل يعترف لها بالحضور، بما في ذلك المخزن الذي لا يمل من القول عبر وزراء داخليته أن وراء كل احتجاج "جماعة" لا داعي لذكر اسمها!
وبعد هذا التوضيح المقتضب، أعود لأقول:
أختي الفاضلة، إننا عندما نبسط موضوع الجبهة السياسية الميدانية، نروم من خلال الدعوة فتح ورش سياسي مع كل الفرقاء السياسيين الراغبين في التغيير، هدفه تقريب وجهات النظر حول توصيف الواقع، وما يقترحه كل طرف لتجاوز الأزمة، ثم البحث عن التقاطعات والكشف عن مساحة المشترك الذي سنتوج به مسلسل تشاوراتنا عبر وثيقة تاريخية تؤسس لكتلة سياسية هدفها الرئيس:
'"تحديد آليات التغيير، وتثبيت مقتضيات المرحلة الانتقالية، ثم التهييء لبناء مؤسسات الدولة بصياغة دستور شعبي وديمقراطي. فيكون التوقيع على الوثيقة بمثابة التزام ومسؤولية اتجاه الآخرين ، وهذا وحده ما نسميه اتفاق وجبهة. أما ما كنا عليه في 20 فبراير هو مجرد تهييء مسبق للتظاهرات والمسيرات ليس إلا، من أجل تفادي العشوائية...
ولا يفوتني أن أذكرك أيتها الفاضلة أن فئة عريضة من اليسار كانت تتهم الجماعة قبل انسحابها بمحاولة الركوب على حركة 20 فبراير وتوظيفها لتحقيق حسب زعمهم "الخلافة الراشدة"، فلما انسحبت الجماعة رَمَوْهَا بخيانة عَهْدٍ لم تبرمه مع أحد. وبعد كل هذا الذهاب والإياب في تفنيد فرضياتك وتأويلاتك لحدث الانسحاب، والذي أزعم أنني قد وافيته حقه، جاء دوري في السؤال لأقول:
لماذا لم تكمل الأطراف التي أسست حركة 20 فبراير مسيرتها الإحتجاجية بكل القوى التقدمية مستستفيدة من انسحاب جماعة العدل والاحسان؟ وهو لَعَمْرِي حلم طالما راود القوى التقدمية في الاستفراد سياسيا بالشارع! فلماذا ترك مؤسسوا الحركة الشارع وولوا ظهرهم للحراك؟ وما دام أن واقع الحال يشهد على ترك هؤلاء للحراك، فلماذا تلومون غيركم على الانسحاب ولا تلومون انفسكم على العجز الذاتي الواضح في القدرة على تحمل المسؤولية النضالية وإبقاء جذوة الحراك مشتعلة؟ ألستم أنتم من أسس الحركة وأعلن انطلاقتها، والمسؤول عن بقائها من عدمه؟
إن ما وقع من أفول للحركة يؤكد، بما لا يدع شكا، أن جماعة العدل والاحسان هي التي كانت تتحمل العبء الأكبر في هذا الحراك،دون أن نبخس جهود الآخرين. وهي التي كانت ستؤدي تبعات أي فشل ميداني او مآلات فوضوية كان يُخَطَّطُ لها من قِبَلِ أعداء الثورات في المنطقة و التي تابعنا وما وزلنا نتابع أطوار الخراب فيها، وتدخل القوى الأجنبية بالمباشر او عن طريق تفويض الجيش لتجفيف آخر ما تبقى من ماء كرامة الشعوب.
وبناء على ما سبق أقول أن الجبهة السياسية التي أقصد بكلامي تحتاج ميثاقا، والميثاق يقتضي أحزابا مسؤولة، والمسؤولية تستوجب الالتزام، ودون هذا الميثاق وهذه المسؤولية لا يحق لأحد أن يلزم أحدا بأفكاره ورهاناته التي يحتفظ كل منا بالحرية المطلقة في الإيمان بها وتبنيها.
وختاما لا يفوتني وبعد كل هذا التدليل، أن أستدعي روح الشهيد كمال العماري رحمه الله تعالى، لأذكرك سيدتي الفاضلة أن هذا الرجل، وإن كان شهيدا لحركة 20 فبراير، فإنه قبل ذلك، عضو تربى على البذل والتضحية في حضن جماعة العدل والاحسان ! ووفاء لروح هذا الشهيد، وكل شهداء هذا الوطن، ستبقى يد العدل والاحسان مبسوطة أمام كل الفضلاء والشرفاء لتقويض دولة الاستبداد، وبناء دولة الإنسان التي تتغيا كرامة الإنسان وسعادة الإنسان ورفاه الإنسان، لا شيء غير الإنسان، الذي دعانا ربنا عز وجل لاقتحام كل العقبات في سبيل فك رقبته من ربقة الاستعباد و طوق الذل استجداءً للقمة الطعام.ولا سبيل لهذا المبتغى إلا بتحقيق العدل، الذي يضمن العيش الكريم للجميع، ليسعد كلٌّ بوجوده الحقيقي في معرفة نفسه، و معرفة ربه، ومعرفة الوظيفته التي من أجلها أوجده الخالق في هذه الحياة؛ وظيفة الاستخلاف التي تجمعنا، والتي علينا ان نحسن تدبير اختلافنا لتحقيقها عبر التكامل والتعاون على البر والخير، لما فيه صلاح ونفع البشرية جمعاء.
سيدتي الفاضلة، رغم بون الاختلاف بينا في زاوية النظر إلى الحدث ، لك مني خالص المودة والتقدير، فالاختلاف لا يخسر للود قضية !
أوكي..