ما وراء الأَكَمَة السياسية، والحاجة إلى جبهة ميدانية

الأنوال بريس - فؤاد هراجة باحث في الفلسفة والفكر المعاصر-
ما يَقْرُبُ 10 مليار درهم هي قيمة الذهب الذي تم حجزه من قِبَلِ السلطات السودانية في حق شركة مناجم مغربية تابعة للهولدينغ الملكي. وهذه العملية التي كُشِفَتْ هي بالتأكيد واحدة من عشرات العمليات التي تقوم بها هذه الشركة عبر العالم و على امتداد سنوات تأسيسها. ولكِ أختي القارئة، وأخي القارئ ان تتصور حجم الثروات التي يَتِمُّ تهريبها، ويتم حرمان الشعب منها! ولكم ان تستحضروا جميعا أن الأمر لا يتعلق بالذهب فحسب، بل بمعادن جمة كالفضة والنحاس واليورانيوم والفوسفاط...، فتحييد معظم هذه الثروات عن الناتج الخام لميزانية الدولة، هو ما يجعل الدولة فعليا فقيرة ومعوزة وفي حاجة لقروض بلغت 950 مليار حسب الأرقام الرسمية. وهو أيضا ما يجعل الحكومات المُغَفَّلَة و المسلوبة الإرادة السياسية والاقتصادية، تلجأ إلى أبشع صور التقشف في حق المواطن، ظنا منها انها تنقد البلد من الانهيار، وتقدم خدمة تاريخية لن يستوعبها الشعب إلا بعد حين..! لمثل هذه الحكومات ولمسيريها أقول: ما أنتم سوى حجاب يستتر به ناهبوا الثروات، وما أنتم سوى غطاء وشاهد زور على حقيقة الثروات التي يَحْرُمُ عليكم قطعا عَرْضَهَا أو مناقشتها ولو تمويها للرأي العام، والتي من أجل سكوتكم عنها تتقاضون ملايين الدراهم كرواتب، وملايين الدراهم كتقاعد. إن ما يرشح بين الفينة و الأخرى من حوادث تفضح الثروات في باناما وسويسرا والسودان وغيرها، يؤكد ان استماتة الأنظمة العربية على الحكم، وإبادة الشعب من أجله، ليس دافعه عشق الكرسي، ولا عشق السلطة لذاتها، وإنما هو الاستماتة من أجل حفظ نصيب هذه الأنظمة من ثروات البلاد التي استأمنها المستعمر عليها قبل مغادرته الشكلية لدولنا المستعمرة. وهذا ما يفسر أيضا سكوت الأنظمة الامبريالية الغربية على قمع كل الثورات العربية التواقة إلى العدالة والحرية والكرامة؛ لأن حصول أي تغيير معناه ضياع مصالحها بسقوط وكلائها من الحكام. إننا اليوم وبعد كل التمارين "الثَّوَرَاتِيَةِ" التي شهدتها المنطقة العربية، وما تلاها من انقلابات عسكرية مضادة ومدعمة ومخططة من طرف الغرب، يمكننا أن نستنتج من كل ما حدث ويحدث، أننا أمام عصابة عالمية استولت على كل المؤسسات الحكومية، واستولت على كل المنظمات العالمية. عصابة وظفت المال والسلطة لعقود طويلة لتضمن حضورها القوي في الحكم عن طريق الديمقراطية الصورية، والتي سرعان ما تتبخر مبادؤها بنجاح الأصوات الحرة المنادية بالانعتاق. إننا أمام معركة تحرر جديدة أصعب من معركة طرد المستعمر، معركة نبدؤها سياسيا بمواجهة نظام الحكم المحلي بكل مستوياته، وبعد تخطي هذه المرحلة، نجد أنفسنا أمام مؤسسة الجيش التي أكدت التجارب بما لا يدع شك انها العمق الاستراتيجي للدولة العميقة. وهذه الخطوة الثانية هي التي لا تزال الشعوب العربية تواجهها في مصر والسودان وليبيا والجزائر، وعندما تتخطى هذه الشعوب عقبة الجيوش التي تُمَوِّلها من ضرائبها، ستنتصب حتما قوى العالم الكبرى لزرع الإرهاب، وضرب الحصار الاقتصادي والسياسي، ودعم النزعات الإثنية والانفصالية من أجل إقناع المواطنين أن الوضع السابق رغم ما فيه من استبداد ونهب للثروات وذيلية للخارج، هو أحسن حالا مما هم عليه من فوضى ودمار.
وكأن الغرب المستكبر يأخذ الأجر من الحكام مقابل تعيينهم وكلاء عنه، ويأخذ أجرا آخر من الشعوب مقابل عدم ترويع أمنهم وزعزعة استقرارهم. وعليه، فلا مناص للشعوب العربية على المدى القريب والمتوسط ان تستعد لمعركة التحرير الكبرى، وهي واعية بالجبهات الثلاث المنصوبة أمامها: جبهة نظام الحكم المدني، وجبهة الجيش النظامي، ثم جبهة الحكومات الغربية التي تعتبرنا مجرد ملحقات اقتصادية لدولها. إن معركة التحرر القادمة والحاسمة تتطلب منا عاجلا وليس آجلا:
* وحدة صف وطنية عابرة لكل الايديولوجيات
* ميثاق سياسي واضح المعالم يروم استعادة الإرادة السياسية المسلوبة محليا في غياب القرارات المستقلة للدولة، وخارجيا في حضور التبعية المطلقة للغرب والارتهان لمؤسساته المالية.
* تأجيل التنافسية السياسية إبان معركة التحرر والانكباب على بناء مؤسسات الدولة الضامنة للحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية من جهة، والحائلة دون انتكاسة سياسية نحو الاستبداد من جديد. وأهم إنجاز في هذه المرحلة وضع دستور شعبي ديمقراطي حقيقي يحمي الجميع، ويضمن حقوق الجميع، و يسائل الجميع عن واجباتهم، حاكما ومحكوما.
* الوعي بمقتضيات المرحلة وما تتطلبه من تنازلات بين الفرقاء الشرفاء الفضلاء الذين يَبْكُونَ الوطن، ويتحسرون على وضعه المزري. وعي لابد ان يجعل المصلحة العامة لمستقبل الوطن فوق الطموحات الحزبية الضيقة.
* الوعي بضرورة تدارك اللحظة قبل فوات الأوان، فبلداننا لا تسير إلا نحو الأسوأ، وكل تأخير لقوى التغيير في اتخاذ قرار الجبهة الموحدة سيزيد بلداننا تدهورا، وسيزيد من صعوبة تطبيب المرحلة الانتقالية.
* ضرورة عدم التسرع في المرحلة الانتقالية، وإعطائها السنوات الكافية للنضج (على الأقل عشر سنوات)، تحكم خلالها حكومة وحدة وطنية، يترأسها شخص( رجل او امرأة)
عليه إجماع وطني ومسيج بمؤسسات تضمن مراقبة أدائه لمهامه الدستورية.
* التأكيد على أن الجبهة النضالية الميدانية لا تعني ذوبان الفصائل السياسية في بعضها البعض، أو تخليها عن توجهاتها الايديولوجية، بقدرما هو تأجيل لمقارعة المشاريع بين قوى وطنية تروم تحرير البلد واستعادة إرادته السياسية المسلوبة.
تأجيل يحتاج إلى فضاء للنقاش العمومي يتمتع بمنسوب عال من الحرية، واستفادة واسعة من وسائل الإعلام بعد تحريرها. كما يحتاج إلى مؤسسات دولتية محايدة تضمن المنافسة الحرة والنزيهة في الانتخابات.
وبعد تثبيت مقومات الدولة المواطنة، وهي دولة الإنسان، وفي ظل أجواء الحرية المسؤولة يمكن فتح النقاش والحوار الجاد والمؤطر بين كل المكونات السياسية والاجتماعية، حول شكل الدولة، وسؤال الهوية، ونمط الديمقراطية، ومذهب الاقتصاد، واستراتيجياتة التعليم...، وغيرها من القضايا الكبرى التي يعد طرحها قبل وأثناء معركة التحرر مجرد صرخة في واد، إن لم تكن حجرة عترة في طريق أي وحدة نضالية ميدانية بين الفرقاء.
وفي الأخير، أزعم أن أي خطوات خارجة عن خارطة الطريق المذكورة، وبعد كل ما حدث للثورات العربية التي عايشناها، يعتبر إما مراهقة سياسية، أو جهل بالسياسة في حق القوى الراغبة في التغيير، وإما خدمة مجانية عن وعي او عن غير وعي لأنظمة الاستبداد المراد زورا تغييرها. فاليوم لم تعد سياسة الدول تلك الطية العسيرة الكشف، بل إن الطيات السياسية كلها انكشفت وتبرجت عوراتها أمام الأزمات الاقتصادية العالمية، وامام رغبة الشعوب المستضعفة في الانعتاق من ربقة التبعية والتخلف. وعليه، لم يبق أمام الفضلاء والشرفاء السياسيين سوى الشروع في بناء ورش التغيير الحقيقي والميداني، وذلك ببسط أرضية للتقارب والتوافق حول ورقة ميثاق منقدة للوطن ومنقدة لمستقبل المواطنين. وفي انتظار وعيكم، وفعلكم المعبر عن رجاحة عقلكم السياسي، وأهليتكم في تطبيب هذا الوطن الجريح، لا يسعني إلا أن أثمن مساعيكم نحو هذا القصد، وسلام على هذه الدولة حتى مطلع العدل!
فؤاد هراجة
باحث في الفلسفة والفكر المعاصر
أوكي..