القول التواصلي: أزمةسلطة ام أزمة تقييم
الأنوال بريس -فؤاد هرجة -
من المسلم به أن كل نظر معرفي يعبر بالضرورة عن مواقف معرفية لصاحبه؛ مواقف إما يُراد تصويبها، وإما يراد إبطالها. وبهذا المعنى، فإن القول المترتب عن هذا النظر، يتغيا حيازة سلطة مؤثرة في المتلقي لجعله يتبنى هذه المواقف من خلال مسلكين:
* المسلك الأول اعتقادي : يعتمد فيه القائل منطق التصويب والإثبات، فيتمكن من نقل خطابه إما إلى درجة القطع واليقين وإما إلى قيمة الصواب عن طريق البيان والتَّبْيِينِ والتَّبَيُّنِ.
* المسلك الثاني انتقادي : يعتمد فيه القائل منطق الإبطال والدحض والتفنيد بعد الفحص، فيتمكن من تجاوز كل نظر مناقض لقوله في نفس المجال.
وكلا المسلكين الاعتقادي والانتقادي يستنفران فاعلية تعقلية غرضها ممارسة سلطة منطقية تجعل المتلقي يتسلم دعوى القائل أي مقدمات التدليل ومن ثمَّ التسليم بنتائج الاستدلال إما إثباتا أو إبطالا، فالإنتقال بالمتلقي من حالة الاختلاف إلى حالة الائتلاف. ولكي يحقق صاحب القول هذا القصد الجدالي المنطقي يكون ملزما بتقديم تدليلات من شأنها أن ترتقي بالمتلقي من منطق غلبة الظن fuzzy logic ، إلى منطق الترجيح informallogic ، ثم انتهاء بمنطق القطع formal logic .
وبناء على ما سبق، نستطيع القول أن الخطاب المؤسس على الإقناع ( persuasion , conviction ) يستحق وحده أن يحوز على سلطة القول عند المتلقي إن كان يتمتع باليقظة المنطقية. لكن للأسف الشديد، وأمام الأبواب المشرعة لوسائل التواصل الاجتماعي، لم يعد القول يستمد سلطته من بنائه التدليلي البرهاني اعتقادا وانتقادا، اختلافا وائتلافا، إثباتا وإبطالا، بل أصبح القول يستمد سلطته مباشرة من خلفية القائل، والتي قد تتحدد إما في شهرته الإعلامية او موقعه الاجتماعي أو منصبه السياسي.
فقد يكون القول مجرد رأي doxa فيعرف انتشارا منقطع النظير من حيث التعليقات عليه، أوتقاسمه على الصفحات، أو التعبير عن قبوله.
وهذا مؤشر على أن عقل المتلقي قد فقد فاعليته التعقلية، وأصبح عقلا مستباحا ونمطيا، ومبرمجا على اختزال سلطة القول في الخلفية التي يحوزها القائل، وإن كان خطابه يفتقر إلى أدنى شروط الاستدلال والبرهان. لقد أصبحنا اليوم في أَمَسِّ الحاجةإلى تخطي هذه الغثائية الفكرية التي استحودت على كل فضاءات التواصل الاجتماعي، على غرار اكتساح الوجبات السريعة sandwich شوارع وموائد وبطون الناس. ومع هذا الكُسَاحِ الفكري نتساءل: ألم يَأْنِ للطليعة المتعلمة على الأقل ان تَتَزَيَّا بِسَمْتٍ فكري يليق بذواتها العاقلة؟ام اننا سنكتشف بعد غفلة عن توظيف عقولنا، أننا مصابون بسرطانات فكرية مستعصية على التجاوز مثل القابلية للاستخفاف، والقابلية للانقياد، فنقول بعد حين، لو كنا نُزَايِلُ خطابنا أو نَتَبَيَّنُ قول غيرنا ما كنا في ذهنية القطيع.
فالسمت، السمت! وإلا نادينا بعد انسداد سبل الفهم والافهام، ولات حين مناص !
فؤاد هرجة
أوكي..