هذا الاغتيال البارد للصحافيين
الأنوال بريس -نواف التميمي-
كانت مقالة هذه الزاوية في 2 نوفمبر الماضي، بمناسبة اليوم العالمي لإنهاء الإفلات من العقاب على الجرائم المرتكبة ضد الصحافيين، وتعلقت بما يُواجه أهل مهنة المتاعب من مصاعب ومصائب. وكان محور الحديث آنذاك الجريمة البشعة التي راح ضحيتها الزميل الصحافي جمال خاشقجي، رحمه الله، مع إصرار مرتكبي الجريمة على الإفلات بجريمتهم من دون عقاب. على هول جريمة قتل خاشقجي داخل مبنى القنصلية السعودية في إسطنبول، وبشاعة ما تكَّشف من فصولها، من حقن وخنق وتقطيع وربما حرق، إلا أن ذلك كله لا ينبغي أن يعمي أبصارنا عن جرائم لا تقل بشاعة، ترتكب على مدار الساعة ضد إعلاميين، بتمويل وإشراف وإدارة من جهات سيادية، بعيداً عن عيون الإعلام ومنظمات الدفاع عن الحريات العامة وحقوق الإنسان. وقد كشفت الأسابيع القليلة الماضية عن سلسلة جرائم "غير دموية" أو "باردة" ارتكبت بحق صحافيين وإعلاميين، لا تقل بشاعة عن التصفية الجسدية التي قضى ضحيتها إعلاميون على طريق نشر الحقيقة وكشف المستور من ممارسات الأنظمة القمعية. جديد هذه الجرائم ما تعرض له إعلاميون من اختراق لهواتفهم الشخصية من فريق "مشروع رايفن"، وهو برنامج سري للمخابرات الإماراتية، تديره مجموعة من خبراء أميركيين في التسلل الإلكتروني، كانوا يعملون سابقاً في المخابرات الأميركية. واستهدفت عمليات التجسس التي كشفت عن فصولها وتفاصيلها تحقيقات صحافية، إعلاميين بارزين، منهم مقدمة برنامج "المشهد" في قناة تلفزيون "بي.بي. سي" العربية، جيزيل خوري، والمدير السابق لقناة الجزيرة، ياسر أبو هلالة، ومقدم برنامج "الاتجاه المعاكس"، فيصل القاسم، ورئيس مجلس إدارة "الجزيرة"، حمد بن ثامر آل ثاني، ورئيس تحرير صحيفة العرب القطرية عبدالله العذبة، وجيف بيزوس، رئيس شركة أمازون، ومالك صحيفة واشنطن بوست. كما استهدف جواسيس "رايفن" إعلاميين وإداريين في صحيفة العربي الجديد وتلفزيون العربي، والقائمة تطول.
بالتزامن مع ذلك، تعرض صحافيون ممن عملوا على تحقيق نشرته كل من "نيويورك تايمز" و"العربي الجديد" خريف العام الماضي، كشف لجوء السلطات الإماراتية لخدمات شركة "أن أس أو" الإسرائيلية التي طورت برنامج "بيغاسوس" للتنصت على الهواتف المحمولة، لعمليات مطاردة، ومحاولات استدراج وإسقاط. وكشفت "العربي الجديد"، بكل جرأة وشفافية، محاولة الاستدراج التي تعرّض لها مراسلها في لندن، إياد حميد، بغرض التعرف منه على مصادر معلومات نشرها عن التعاون بين السلطات الإماراتية و"أن أس أو" التي طوّرت برنامج "بيغاسوس" للتنصت.
لم تتوقف نشاطات مطاردة الصحافيين، والتضييق على حرياتهم، في الحصول على المعلومات، ونشرها عند حدود التنصت، واختراق خصوصيتهم الفردية، أو عند محاولات الابتزاز والتهديد والاستدراج، بل تجاوزت ذلك إلى حد التشهير العلني والمس بالسمعة، وفي ما تعرّضت له الإعلامية الأردنية، علا الفارس، على مدار أشهر، مثال صارخ على الاغتيال المعنوي والنفسي للصحافيين والإعلاميين. وكانت علا قد تعرّضت لحملات تشهير في العام 2018، بعد تغريدات نشرتها في ديسمبر/ كانون الأول عام 2017، في أثناء عملها مذيعة في محطة "إم بي سي" السعودية، تعقيباً على قرار الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل. استقالت علا، والأرجح أنها أُقيلت من "إم بي سي" لتبحث بعد ذلك عن موقع مهني آخر. ومن جديد، تتعرّض لحملات تشهير، وسيل من الشتائم والاتهامات بـ"الخيانة"، لمجرد إعلانها عن إطلالة قريبة لها عبر قناة "بي إن" القطرية في برنامج باسم "علا شو".
بعد خمس سنوات من اعتماد 2 نوفمبر ، يوماً عالمياً لإنهاء الإفلات من العقاب على الجرائم المرتكبة ضد الصحافيين، بات حتمياً على العالم إدراك أن الجرائم "الباردة" التي تًرتكب ضد الصحافيين والمفكرين وأصحاب الرأي، أكثر بشاعةً ودمويةً من التصفية الجسدية، وبأن المجرمين الممولين والمدبرين لهذه الأنشطة الإجرامية هم قتلة بقفازات ناعمة، ومن المعيب أن يفلتوا بجرائمهم من دون عقاب.
أوكي..