"الرأسمالية تحتضر" ..."الرأسمالية تشهد آخر أيام شيخوختها "بفرنسا
الأنوال بريس -ذ عبد الحميد العلاقي -
المواطن الفرنسي يخوض مجبرا سباقا دائما لا يهدأ لتحقيق ضرورات حياته اليومية لذلك تمثل السيارة –باعتبارها أداة السباق- بعضا من نياط قلبه والرئة التي يتنفس بها، إذ يقطع الفرنسي يوميا على أقل تقدير 50 كيلومترا للوصول إلى مقر عمله وعشرين كيلومترا للتسوق وعشرة كيلومترات لأول عيادة طبية، هو يمارس هذا السباق المفروض بسيارة مستعملة تهدده على الدوام بأعطالها وهو إن توقف فقد وجوده فعلا. لذلك يُعد ارتفاع أسعار الوقود استهدافا مباشرا لحقه في الوجود دون أن يجد من ينقذه من دوائر الرعب هذه لا الدولة بمؤسساتها ولا الطيف الواسع للمجتمع المدني ولا النقابات المتشظية ولا الأحزاب، حتى اليسار الذي يُفترض أن يحمل هموم هؤلاء الكادحين أصبح “يسار كيروزين” على حدّ عبارة ميشيا إذ لا همّ لدعاته إلا التحول من مطار إلى مطار لإلقاء الخطب الإيكولوجية المنمّقة والناعمة في الجامعات والمنتديات الثقافية. لم يبق في النهاية لهؤلاء إلاّ أن يضجوا بشكل تلقائي ضد سطوة الرأسمالية. إنه حدث جلل ذاك الذي حدث يوم 17 يناير 2018 في المدن الفرنسية إذ يبشر بضرب جديد من المقاومة خارج حدود المؤسسات المنمّطة من قبل الرأسمالية.
حراك منفلت من عقال الانتماء السلبي وإن ادّعت المؤسسات الحزبية أو الأيديولوجية تبنّيه أو تطويعه. هو منفلت إلى أن يتشكل في مؤسسات خارج هيمنة العولمة الرأسمالية.
كُثْرٌ هم الفلاسفة والباحثون المختصون الذين تفرّغوا لنقد الرأسمالية المتوحشة التي التحفت بكلّ شيء في سبيل إدامة سلطتها المطلقة على مقدرات الشعوب، وما هو لافت للنظر حقا أنّ هؤلاء الباحثين قد أجمعوا في معظمهم على أنّ الرأسمالية تشهد منعطفها الأخير وأنّ حراك الشعوب المضطهدة سيتعزز بشكل أوسع وأكبر وربما اعتبر بعضهم أنّ المأساة التي يعيشها العالم لم تعد متعلقة بشعوب الدول النامية فحسب وانما امتد الأمر إلى عقر دار الرأسمالية. وما يجري في فرنسا اليوم خير دليل. إذ يرى الكاتب البريطاني ” ديفيد هارفي ” في كتابه “الامبريالية الجديدة” أنّ التطور الإعلامي والتكنولوجي قد خلق عند الناس أزمة هويّة أذكت بشكل مباشر الصراعات العرقية والعنصرية ممّا جعل التوحش والكوارث والدموية الفضاء الملائم للإمبريالية، إنّ واقع الحال هذا يخلق فرصة عظيمة وفق “هارفي” لتصور مجتمع اشتراكي جديد، لذلك عكف الكاتب على إعادة قراءة كارل ماركس ، معتقدا أنّ كل القراءات السابقة المتعلقة بمؤلفات ماركس وأساسا كتاب رأس المال لم توف هذا المفكّر الاستثنائي حقه.
ويبدو أنّ توقع حراك جماهيري مقاوم للإمبريالية لم يكن ديدن هارفي وحده بل طال مفكرين مقاومين آخرين لعلّ “فيليب ماكمايكل” ” الباحث الأسترالي أهمّهم خاصة في النقود الدقيقة التي وجهها للعولمة في كتاب له شهير بعنوان ” العولمة أساطير وحقائق معتبرا أنّ احتمالات قيام مقاومة محلّية قوية ضدّ المتطلبات المدمّرة للرأسمالية العالمية بات أمرا وشيكا. لقد قوّضت العولمة الحماية الاجتماعية للشعوب، خاصة إذا علمنا أنّ التوجهات الجوهرية للرأسمالية تقوم أساسا على الإنتاج الدائم للتباين والصراع وهي بذلك نزّاعة إلى الأزمات والعمل على اختلاقها. فعمليات تراكم رأس المال لا تزدهر على الاختلاف الاجتماعي وعدم التجانس فحسب بل إنّ الرأسمالية نفسها هي التي تنتج هذا التباين وبفعالية لا نظير لها. إنّ همّ العولمة هو إعادة هيكلة الدول والاقتصاديات وفق معيار عالمي . وعليه فقد انهارت مشاريع التنمية وانهارت معها آفاق الدول الوطنية التي لم تعد قابلة للتطور وإنما وجب عليها أن تضع نفسها مجبرة في اطار اقتصاد معولم بلا رحمة، وأن تعمل وفقه على تدبير أمورها المالية. وهكذا أضحت المعايير الاقتصادية العالمية تلقي بظلالها على المعايير الاجتماعية خاصة بعد أن حوّل البنك الدولي تركيزه من مشاريع القروض إلى قروض مرتبطة رأسا بسياسات الإصلاح التي هي بدورها تعني حقيقة هيكلة اقتصاديات الدول لتلائم معايير الاستغلال الامبريالي مع تقديمها على اعتبار كونها متطلبات ضرورية للنظام العالمي الجديد. إن هذه الهيكلة هي التي دفعت إلى تجريد الفقراء من الحماية الاجتماعية بدءا بفقدان الوظائف وانتهاء باستهداف أشد متطلبات الحياة ضرورة كالأمن والغذاء.
إنّ ما يجري في فرنسا من حراك جماهيري لم يكن سببه ارتفاع سعر الوقود ولا فقدان الوظائف فحسب بل إضافة إلى ذلك هو تآكل المؤسسات الاجتماعية، واستشراء حالة الضياع واللاجدوى التي أصابت المتعولمين من مثقفين ومؤسسات إعلامية لا غاية لها إلا تأبيد حالة الجهل وتنميط العقول بما يلائم التوجهات الليبرالية مما دفع بمناهضي العولمة إلى اعتبار العودة إلى المحلية هي الملاذ الأخير للخلاص من القبضة الامبريالية، كما ذكر ذلك الباحث الفيليبيني “فالدن بيلّو” عندما تنبّأ بقرب أفول العولمة مستحدثا مصطلحا جديدا لفترة ما بعدالعولمة أسماه “العولمة المضادة” والتي تعني وضعا ملطفا لعولمة أقلّ تفاوتا وأكثر محلّية عبر إعادة فرض الرسوم الجمركية على عبور السلع وكبح جماح التبادل الحر للبضائع، حماية للمنتجات المحلية ولا يتحدّث “بليّو” عن ينبغيّات أو يوتوبيا الخروج من العولمة بشكلها التقليدي وإنّما يقدم حججا وقائعية عن بداية هذا التحوّل على الساحة الدولية من آسيا إلى أمريكا اللاتينية مرورا بالقارة الإفريقية جنوب الصحراء ومن مظاهر تلك القوى المقاومة للعولمة والداعية للمحلّية اندلاع ثورة الفلاحين في إقليم “شياباس” جنوب المكسيك سنة 1994. وكذلك ما حدث من حراك شعبي في بعض الدول العربية في ما يعرف بالربيع العربي وهو حراك تلقائي خاصة ذاك الذي حدث في المدن والقرى التونسية شتاء 2010-2011 والذي من مطالبه المركزية الحرية والعمل والقوت قبل أن تُجهز الدوائر الامبريالية عليه وتغيّر شعاراته الأصلية إلى شعارات دينية وهوويّة مفرغة المضمون وتجيّر ذلك الحراك لخدمة مصالحها في المنطقة. ويظل السؤال المطروح هل بوسع الثائرين على البؤس في شتى أصقاع الأرض ممن امتلكوا وعيا عميقا بخطر العدو الأصلي أو ممن لم يمتلكوا أن يدفنوا إلى الأبد قيودهم التي أوثقت ربطها الرأسمالية حول أيديهم وأعناقهم؟، هل بوسع هؤلاء أن يحرّروا انتفاضاتهم تلك من الترويض والاخضاع التي يقوم بها البلدوزر الامبريالي عبر أذرعه المتعددة من الديني إلى الفلسفي إلى الفني إلى الإعلامي والتكنولوجي؟ وبالعودة إلى المفكر اليساري الفرنسي جون كلود ميشيا ولمجمل مؤلفاته ندرك أن المَكَنة الرأسمالية تستحوذ على تفاصيل كل شيء ولا تترك لأعدائها من البسطاء والمفَقَّرين والباحثين عن حياة هانئة ومستقرة مجالا واحدا للخلاص أو منفذا ضيقا يتنفسون من خلاله، ففي كتابه “تعليم الجهل” يقرّ “ميشيا” أنّ المؤسسات التعليمية في فرنسا من المدرسة إلى الجامعة هي مؤسسات لم تعد تنتج غير أفواج من فاقدي المعرفة وأنّ ذلك لا يعود ضرورة إلى غياب كفاءة بيداغوجية أو ضعفٍ برامجيّ بقدر ما يعود إلى مسائل أعمق غورا وأشدّ خطرا لذلك يحفر الكاتب عميقا في هذا الأمر ليتبيّن كنه المؤسسات الخفية التي تحرّك المشهد التعليمي وتتحكّم فيه ورأى أنّ تعليم الجهل أمر مخطط من قِبل الرأسمالية بغية تشكيل قطاع بشري كوني مِطواع لا همَّ له غير الاستهلاك، حتى نخبة الأذكياء يقع تنميط ذكائها وتدجينه لخدمة المشروع الرأسمالي ليغدو أفرادها حِرفيين أكثر من كونهم مبدعين، بمعنى أنّهم أذكياء ولكن فقط داخل النموذج الذي اختطته الرأسمالية. لذلك يُعدّ كلّ تمرّد على هذا النموذج هو في حد ذاته أمر مطلوب بل ضروري لإدراك المعنى الحقيقي للحرية.إنّ خطاب النهايات السائد في فكر ما بعد الحداثة كالقول بنهاية التاريخ ونهاية الأيديولوجيا ونهاية الفلسفة ونهاية المدرسة وغيرها يمثّل حقيقة روح المشروع الرأسمالي فالعولمة الاقتصادية هي التي أنتجت “مابعد الحداثة” الفكرية التي مالت إلى إنكار أي شيء منهجي أو عام أو قيمي وأكّدت على مبدأ التشظي والاختلاف واللاجدوى وأشعرت الانسان باليأس والهزيمة. إنّ هذا المبدأ الذي تستفيد منه الرأسمالية لتُحكم قبضتها على العالم هو الممرّ نفسه للتمرّد عليه من قِبل الكادحين والمضطهَدين الذين يتعاظمون بؤسا وغضبا يوما بعد يوم على حدّ عبارة “بول جوريون” في كتابه “الرأسمالية تحتضر” . ولكن لِمَ هذا اليقين بأنّ الرأسمالية تشهد آخر أيام شيخوختها؟ ألَمْ يعتقد نقّادُ الرأسمالية بقرب زوالها الاعتقاد نفسه قبل أكثر من قرن من الزمان؟ ولكنها كانت تُثبت في كلّ مرة قدرتها على الاستمرار والتجدّد. هل استنفذت الرأسمالية كل أسلحتها للسيطرة على العالم؟ وما هو هذا العالم الذي يمكن تصوره ما بعد الرأسمالية؟ معطيات عديدة في الحقيقة تؤيّد رؤى الباحثين تلك، وإن ضاق القول عن ذكرها أو الإتيان على بعضها فإنّنا نعتقد أنّ ما جرى وما يجري على الساحة الدولية يؤذن بتحولات كبيرة أقلّها ما يمكن أن يحدث في مراكز التحكّم في الاقتصاديات والسياسات الدولية فالتناقضات التي تعيشها دول المركز الرأسمالي بدت في تفاقم أشدّ لم تشهده بهذه الحدّة سابقا فالداخل الأوروبي أو الأمريكي أو كليهما غادر بلا رجعة عصر الرخاء ودخل في مسار غير مستقرّ منذ أزمة الإفلاس اليوناني إلى خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي إلى أزمة الرهن العقاري في الولايات المتحدة الأمريكية سنة 2007 وتنامي الشرخ العرقي فيها وهي كلّها تمظهرات سطحية لمشكلة أعمق وأكثر خطرا. لذلك نعتقد كما اعتقد المفكر الفرنسي ميشيا أنّ حراك السترات الصفراء في فرنسا هو إيذان صريح بأزمة تضرب بجذورها عميقا في النظام الرأسمالي. خاصة إذا كانت هذه الانتفاضة صادرة من مركز الرأسمالية وعقر دارها. ومهما يكن مصير هذا الحراك في ذاته، قد تخف حدّته أو يهدأ إلى حين أو ربما يقع ترويضه برهة من الزمان ولكنّ الحدثان الداخلي للتحوّلات الخطيرة في جسد المؤسسات الرأسمالية لن يقف ولن يتوانى عن التبدّل والتغيّر ليصل إلى مأزقه الأخير الذي لا مناص من بلوغه عاجلا أو آجلا.
أوكي..