الرابح والخاسر من الصيف السياسي الساخن في المغرب

الأنوال بريس -بلال التليدي كاتب وباحث مغربي-
كسابقه، كان الصيف السياسي لهذه السنة ساخنا في المغرب، إذ عرف إخراج قرارات كبيرة، همت بنية الدولة وهيكلة الحكومة، وأحدثت تحولات دالة في المشهد السياسي، واحتفظت المؤسسة الملكية ـ كعادتها ـ بدورها المركزي كسلطة تنفيذية آمرة.
تعدد القرارات وشمولها لأكثر من محور يؤشر على استشعار الدولة لمخاطر كبيرة ناجمة عن تعاظم أعطاب السياسة، إذ جمعت بين الطابع العقابي، وبين إعطاء إشارات للانفراج الحقوقي دون التفريط في مقولة هيبة الدولة. بدأ الأمر بإعفاء وزير الاقتصاد والمالية بتعليل ربط المسؤولية والمحاسبة، دون أن يظهر للرأي العالم وجه الإخلال الذي لأجله تم اتخاذ هذا القرار، وظهر من تذييل بلاغ الديوان الملكي بعبارة عدم تسامح الملك مع تقصير من أي مسؤول مهما كان انتماؤه السياسي، أن الأمر يتعلق ربما بجواب عن انتقادات سابقة بشأن قرارات الصيف السابق، التي قرئت على أساس أنها استهداف لحزب التقدم والاشتراكية ومحاولة لتعميق الشرخ بين الحليفين الحزبيين العدالة والتنمية والتقدم والاشتراكية، ثم جاء قرار الإعفاء الناعم لكاتبة الدولة في الماء شرفات أفيلال من حزب التقدم والاشتراكية، ليكرس هذا الواقع، حتى والبلاغ الملكي ينسب سبب الإعفاء لاقتراح رئيس الحكومة.
من جهة التحولات التي مست البنية الحكومية، وبغض النظر عن المبررات التي دفعت لإقالة شرفات أفيلال، فإن النتيجة الطبيعية هي دخول تحالف العدالة والتنمية والتقدم والاشتراكية لمأزق غير مسبوق، يمكن أن يتطور في المدى القصير والمتوسط لما يشبه إقبار الصيغة السياسية التي حاول عبد الإله بنكيران رئيس الحكومة السابق رعايتها بكثير من الحدب، لاسيما وأن صيغة الإعفاء لم تخضع للآلية المعمول بها في الأغلبية، إذ لم يحط الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية السيد نبيل بن عبد الله بأي علم بالموضوع، ولم توضع بين يديه أي معطيات تخص أسباب وملابسات ودواعي الاستغناء عن كاتبة دولة من حزبه، وهو ما سيترتب عنه ردود فعل سياسية غاضبة من هذا الحزب.
الملك بذكائه السياسي، أبعد اللوم من ساحته بطريقين، الأول أنه نسب القضية لاقتراح رئيس الحكومة كما هو الشكل الدستوري المنصوص عليه في الفصل 47، والثاني أنه أقدم على تعيين قيادي من هذا الحزب خالد الناصري سفيرا للأردن، ولم يترك بذلك أي ذريعة لمحاولة قراءة القرار الملكي من نفس الزاوية التي قرئت بها الصيف الماضي، حين تم إعفاء الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية ووزير الصحة القيادي من نفس الحزب على خلفية الإخلال بمشروع «الحسمية منارة المتوسط».
التوقعات المرتقبة بهذا الخصوص ليست كثيرة، فأغلب التقدير أن لا يتجاوز الأمر اجتماعا ساخنا للمكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية وإنتاج بلاغ سياسي حاد يشعل التوتر السياسي بين الحزبين الحليفين، ويمكن أن يستثمر من قبل بعض الجهات لإطلاق حملة إعلامية قد تقودها بعض الجهات بناء على معطيات خاصة يكون الهدف منها هو محاولة المس بطهرانية حزب التقدم والاشتراكية باتهام قياداته بالفساد، لخلق المبررات الموضوعية لطلاق غير رجعي بين الحليفين، إذ ستترسخ من جهة قيادات في التقدم والاشتراكية مقولة رغبة رئيس الحكومة الحالي إنهاء صيغة بنكيران في التحالف بين الحزبين بدليل عدم انضباطه في هذه القضية لميثاق الأغلبية بإقدامه على إعفاء مسؤولة من حزب معين من غير عرض للموضوع على الأغلبية، ولا مجرد استشارة مع الأمين العام للحزب المعني، كما سيكون التوتر مناسبة ليؤسس بعض قيادات حزب العدالة والتنمية مقولة ظهور ما يبرر مراجعة صيغة التحالف، وقد يجرؤ البعض على طرح تساؤل الجدوى من الاستمرار في تحالف مع حزب تورط بعض مسؤوليه في ملفات !!
أما تعيين وزير الاقتصاد والمالية الجديد، فلم يخرج عن النمط السلطوي التقليدي الذي يتم فيه الحرص على تحصين هذا المنصب، وصباغة التكنوقراط بألوان حزبية لمراعاة الشكل الدستوري، فتم تدبيج القرار بالاستناد للفصل 47، والتأكيد على أن الأمر تم باقتراح من رئيس الحكومة، الذي بدوره، نسب قضية اقتراح الوزير المذكور لرئيس حزب الأحرار، الذي يعتبر المنصب من حصته. الدلالات ليست كبيرة في هذا القرار، فالأمر يتعلق بتعيين مسؤول بنكي كبير كان يشغل منصب المدير العام للبنك الشعبي، الذي لا يعرف عنه أي خبرة في عالم الاقتصاد، سوى ما كان من نتائج تقليدية تخص الأرباح والمكاسب التي تحققها البنوك في العادة بحكم النظام البنكي المعمول به في المغرب، والذي يجعل البنوك بعيدة عن أي مخاطرات استثمارية يختبر بها أداء المسؤولين، أي أن تعيين هذا التكنوقراطي على رأس وزارة الاقتصاد والمالية، يحمل نفس دلالات منع العدالة والتنمية في حكومة 2012 من رئاسة هذه الوزارة، ونفس دلالات إسناد هذه الوزارة لرجال الإدارة المصبوغين بألوان حزبية، كما حصل في تعيين محمد بوسعيد، وكما حصل أيضا للمعين الجديد الذي لم تعرف له سابقة في العمل السياسي ولا العمل الحزبي، فدخل الحكومة باسم حزب الأحرار.
قرار الإفراج عن أكثر من 160 معتقلا على خلفية حراك الحسيمة، كان متوقعا بحكم حاجة البلاد إلى تهدئة سياسية وانفراج حقوقي، لكنه جاء هذه المرة بصيغة متوازنة تحقق مطالب الحقوقيين من جهة، وترسخ مقولة هيبة الدولة التي طالما ركزت عليها السلطة في بناء مقاربتها اتجاه حراك الريف، ليترك المجال واسعا لمزيد من الإمساك بالملف، والقدرة على المناورة به، لخلق شرعية سياسية كبيرة داخل الريف، تطوي الملف بشكل نهائي، وترسخ لفكرة عدم وجود خصومة بين المنطقة وبين الملك، تاريخية كانت أم سياسية، وهو ما يعني إمكانية الإفراج عن بقية المعتقلين بما في ذلك زعماء الحراك وقادته في مرحلة قادمة، وذلك حسب نوع التفاعل الذي ستتعاطى به المنطقة مع قرار العفو عن الدفعة الأولى من المعتقلين.
حصيلة هذه القرارات، وتداعياتها، لن تكون على نسق واحد، فالرابح الأكبر منها هو صورة الملك، الذي بدا من خلال مضمون القرارات وشكلها منسجما مع المقتضيات الدستورية، إذ أسند القرارات لاقتراح رئيس الحكومة حسب ما يقتضيه الفصل 47، وأبعد نفسه عن ساحة التدخل في الشأن الحزبي، وكرس منطق ربط المسؤولية بالمحاسبة من خلال خيار الإعفاء، وتعامل بذكاء سياسي مع متطلبات التهدئة في منطقة الريف دون التنازل عن منطق تكريس هيبة الدولة. أما الخاسر الأكبر في هذه التحولات، فهو صورة حزب العدالة والتنمية وحليفه السياسي، إذ بدأت تكبر فكرة «إدارية» حزب العدالة والتنمية، وتغير المنطق السياسي الذي كان يدير به المسؤولية الحكومية السابقة، كما خلقت الشروط الموضوعية لطلاق وشيك بين حزبين أدارا بصعوبة مرحلة دقيقة من ممانعة الإرادات المعاكسة للتغيير، وأفشلا سيناريوهات الارتداد على مسار ما بعد فاتح يوليو 2011.
قد يكون قبول رئيس الحكومة لتعيين المدير العام للبنك الشعبي وزير للاقتصاد والمالية متفهما بحكم أن السوابق التي مرت في ممارسة حزبه لا تختلف عما فعل، لكن سلوكه السياسي الذي تجاوز التشاور مع الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية، لن يكون متقبلا، سواء بالقياس للسوابق، أو لمقتضيات ميثاق الأغلبية، أو للتحالف السياسي الموضوعي بينه وبين حزب التقدم والاشتراكية.
أوكي..