تونس تشهد انتهاكات حقوق العمال في مختلف القطاعات
تونس بلد النقابات العمالية القوية والمؤثرة والرائدة على المستويين العربي والافريقي، ورغم وجود مركزية نقابية فاعلة في المشهد السياسي ساهمت في دحر الاستعمار وبناء دولة الاستقلال ورعاية الحوار الوطني، إلا أن تونس تشهد انتهاكات كبيرة تمس حقوق العمال في مختلف القطاعات. ويتعلق الأمر بظاهرة لافتة وليس بحوادث معزولة هنا وهناك، الأمر الذي يستدعي تدخلا من مختلف الأطراف لوضع حد لهذا النزيف الذي لا يليق بدولة قطعت أشواطا هامة في المجال الحقوقي وصارت مضرب الأمثال لدى البعض.
فتونس هي بلد الحركة الإصلاحية التي انطلقت منذ القرن الثامن عشر وعرفت أوجها في القرن الذي يليه وأنتجت روادا من المصلحين يشهد بإسهاماتهم القاصي والداني، وبقيت آثارهم شاهدة على حقبة مزهرة من تاريخ البلد. كما أنها أول بلد عربي وافريقي يلغي العبودية وسبقتها في ذلك فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية، وكان ذلك في سنة 1843 وبالتالي فمن غير الجائز واللائق، حسب البعض، ان لا توجد في بلد الاتحاد العام التونسي للشغل، منظومة حقوقية متكاملة ضامنة لحقوق العمال متماهية مع ما ورد في الدستور الجديد الذي تضمن نصوصا ثورية في مجالي الحقوق والحريات العامة والخاصة.
تنقيح القوانين
وفي هذا الإطار يرى الأكاديمي والباحث في المنتدى الاقتصادي والاجتماعي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية رمضان بن عمرعن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للعمال في تونس، أنه وبعد ثورة يناير 2011 تم الانتباه إلى عدد من الحقوق التي كانت مهدورة للعمال في تونس. ولكن في ظل الوضع الاقتصادي والاجتماعي الصعب الذي مرت به البلاد كان يتصور، وحسب محدثنا، ان الانتهاكات ستنقص وأن البلاد سائرة لتكون نموذجا يحتذى في المجال الحقوقي.
ويضيف بن عمر قائلا: «لكن للأسف الانتهاكات في تزايد بعد الثورة وأهم مكسب تحقق للعمال ربما هو إنهاء كل أشكال العمل الهش والانقطاع عن المناولة. ولكن هذه المكاسب التي تحققت اليوم يحصل الالتفاف عليها، فلا يزال التشغيل بالمناولة يقع في عدد من القطاعات خاصة في القطاع الخاص وأشكال التشغيل الهش ما زالت موجودة بكثرة والدولة تعتبر من أكبر المشغلين للعمال بطريقة هشة وخاصة في قطاع عمال الأنشطة التابعة البلديات».
ويضيف: «لقد قدم المنتدى الاقتصادي والاجتماعي العديد من الدراسات حول هذه الأشكال التشغيلية الهشة، وكان قد أوصى بضرورة احترام الحكومة للمبادئ الدستورية كما ورد فييناير 2014 (الدستور الجديد) والذي يضم الحق في العمل اللائق. ونعتبر ان هذه الأشكال الهشة تنتهك هذا الحق الدستوري وأيضا المنتدى كان طالب الحكومة في مناسبات عدة باحترام تعهداتها خاصة التي أعلنتها في المؤتمر الوطني للتشغيل الذي عقد في سنة 2015 وأيضا في كل مرة تساءل في جلسات في مجلس نواب الشعب حيث تعهدت أن تقضي على كافة أشكال التشغيل الهش وان تحاول إيقاف الانتهاكات».
فالدولة حسب الباحث التونسي هي من أكثر المشغلين بطريقة هشة للعمال سواء في قطاع عمال الأنشطة التابعة البلديات أو في قطاع التعليم، حيث نجد الآلاف من المعلمين والاستاذة يعملون في قطاعات هشة تابعة للحكومة. كما أن القطاع الخاص يشهد حسب محدثنا انتهاكات لحقوق العمال خاصة بعد الأزمة الاقتصادية والاجتماعية حيث شهدتها من عمليات طرد تعسفي وشهدنا خلالها إخلاء سبيل العمال دون ضمان حقوقهم خاصة في القطاعات الهشة التي تأثرت بالواقع الاقتصادي مثل قطاع النسيج والسياحة التي تأثرت بالأزمة الاقتصادية.
ومن بين الأسباب التي يرى رمضان بن عمر أنها تساهم في حصول هذه الانتهاكات لحقوق العمال، المنظومة القانونية التونسية المتخلفة والتي لا تزال غير قادرة على تلبية مطالب نيل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للعمال.
لذلك طالب بمراجعة بعض القوانين مثل قانون 72 الذي يسمح بمرونة تشغيلية تنتهك الحقوق الأساسية للعمال. وأيضا إعادة النظر في عدد من القوانين الموجودة في مجلة الشغل وفي المنظومات الجزائية الأخرى التي يرى أنها يجب ان تكون في مستوى دستوريناير 2014. وذلك بالرغم من أنه، وإلى حد الآن لم يتم القيام بأي خطوة لتحيين المنظومة القانونية التونسية في علاقة بالحقوق الاقتصادية والقانونية لتتوافق مع مبادئ الثورة والدستور.
محسوبية في الانتداب
أن الدولة التونسية، أو دولة الاستقلال، هي أشد المنتهكين لحقوق العمال في تونس وهي من يجب أن تحاسب، لأنها لو احترمت هذه الحقوق لكان الخواص ساروا على نهجها باعتبارها القدوة. فالدولة، حسب القابسي، هي التي تشجع على ما يحصل للعمال من خلال الكثير من الممارسات ومنها التلكؤ في سن قوانين رادعة لكل من تسول له نفسه أن ينتهك حقوق العمال.
ويضيف: «يبدأ انتهاك الدولة لحقوق العمال منذ وضع طرق الانتداب التي تبدو غريبة لا وجود فيها لمنطق يعتمد الأكفأ في الدرجة الأولى ثم الأقل كفاءة حتى الوصول إلى سد الحاجة. لكن ذلك لا يحصل، ويتم انتداب الكثير سقط المتاع من ذوي القرابة أو الصداقة أو المصاهرة أو من يرتبطون بعلاقات ودية غير اعتيادية مع هذا المسؤول أو تلك المسؤولة أو غيرهم.
ولا تعير الدولة في أحيان كثيرة أي اهتمام للتغطية الاجتماعية ولا تفكر بتاتا مع فئة من العمال في المنح رغم ان الأمر يتعلق أحيانا برب عائلة لديه أبناء يدرسون ويحتفل بالأعياد ذاتها التي يحتفل بها رئيسه في العمل.
كما أن الأجر الأدنى ضعيف في تونس ولا يتماشى مع الغلاء الفاحش في المعيشة الذي ظهر بعد الثورة ولا مع ساعات العمل الكثيفة التي تقتطع من جهد العامل وصحة جسده، وهو الذي يعاني الأمرين ليتم ترسيمه حتى يصبح قادرا على الحصول على بعض المنافع ومنها القرض البنكي الذي تشترط الجهات المانحة له الترسيم في العمل.
ويعتبر القابسي أن لا دولة الاستقلال ولا من حكموا بعد الثورة نجحوا في ترسيخ منظومة حقوقية صلبة تضمن مصالح العمال وتجعل الدولة هي القاطرة التي تسير في ركابها عربات مؤسسات القطاع الخاص. كما يحمل المسؤولية لأعرق المركزيات النقابية، الاتحاد العام التونسي للشغل الذي لم ينجح رغم قوته في الضغط على الدولة لسن جملة من القوانين تضمن كرامة العامل، وبالتالي وجب أن يتحمل الاتحاد بدوره قسطا من المسؤولية خاصة في السنوات التي تلت الإطاحة بنظام زين العابدين بن علي، حيث أصبح للاتحاد نفوذا واسعا وهو الذي رعى الحوار الوطني بين مختلف الفرقاء السياسيين في فترة هامة ومفصلية من تاريخ تونس الحديث وساهم في تجنيب البلاد منزلقات الحرب الأهلية وكانت كلمته مسموعة.
ويضيف: «رغم هذا الوضع القاتم فإن هناك بعض المحاولات والخطوات التي تم القيام بها مؤخرا في الاتجاه الصحيح، ومن ذلك التخلي عن المناولة في الإدارات العمومية. كما تم ترسيم عدد من العمال العرضيين والمتعاقدين والترفيع في أجورهم لضمان العيش الكريم لهم ولمن يعيلونه. لكن هذه الجهود تعتبر غير كافية بالنظر إلى أنها لم تطل جميع العمال وما زال هناك من ينتظر وهو ما يجب أن يبعث على الحيرة والقلق باعتبار الارتباط الوثيق بين نيل الحقوق كاملة وبين الرفع في المردودية والجودة، وهذا ما يجب أن يفهمه أرباب العمل سواء في القطاع العام أو القطاع الخاص».
الصنف الرابع
وللإشارة فقد كشف مؤشر حقوق العمال العالمي لسنة 2018 وجود تونس في الصنف الرابع، الذي يعني أنها دولة تنتهك بصورة ممنهجة حقوق العمال. وصدر التقرير عن الاتحاد الدولي للنقابات وشمل 139 دولة، وجاءت تونس في هذا التصنيف المخجل مع الكاميرون والعراق ولبنان وعمان. وقد رأى كثير من المحللين في هذا التصنيف صفعة لـ»ثورة» تونس التي رفعت شعارات رنانة منها «الكرامة» فأي كرامة لعمال دولة تنتهك حقوقهم بصورة ممنهجة؟
وفي هذا الإطار يعتبر الناشط الحقوقي والسياسي التونسي باديس الكوباكجي أن هذا التصنيف الصادر عن الاتحاد الدولي للنقابات هو بمثابة الرجة التي يجب أن تجعل التونسيين يستفيقون من سباتهم. لقد اعتقدوا حسب محدثنا ولسنوات طويلة أنهم الأرقى والأفضل والأكثر انفتاحا من محيطهم الإقليمي فإذا بالأرقام والتصنيفات في المجال الحقوقي تأتي مخالفة لما يعتقدونه وهو ما يجعلهم يعيدون حساباتهم.
ويضيف: «رغم أن أغلب البلدان العربية جاءت في التصنيف الخامس والأخير، أي بعد تونس، إلا ان ذلك لا يجب أن يكون سببا للشعور بالارتياح والرضا عن النفس لأنه وجب النظر إلى من هم أفضل حتى نتقدم خاصة في المجال الحقوقي. فللأسف نحن نتراجع في عديد المجالات بعد الثورة وقد كان من المفروض أن نتقدم خاصة في المجال الحقوقي الذي كان معضلة تونس الحقيقية وسبب الانتقادات التي كانت توجه لها خلال العهد السابق.
علينا أن لا نتهاون في هذا المجال الحقوقي خاصة إذا تعلق الأمر بحقوق العمال الذين هم البناة الحقيقيون لأي قوة اقتصادية مفترضة يروم التونسيون تحقيقها في قادم السنوات. وأقولها بكل أسف وأسى لن نتقدم كثيرا بمثل هكذا قوانين وبمثل هكذا تصنيفات لم تأت من فراغ وإنما من خلال جملة من المعطيات والحقائق التي لا يجب أن ننكرها، ففي الإنكار هروب إلى الأمام وإخفاء للرأس كما تفعل النعامة الأمر الذي سيعود علينا وعلى بلادنا بالوبال».
تونس في حاجة إلى تشريعات جديدة تضمن حقوق عمالها الذي هم أبناؤها، يؤكد محدثنا، ويضيف «وحتى إن كانوا من غير أبنائها فهم يعملون على أرضها ولمصلحتها ولا يجب تمييزهم عن مواطني البلد». إن التشريعات القديمة البالية لم تعد صالحة لهذا العصر الذي تطورت فيه حقوق الإنسان بشكل لافت وعرفت أجيالا جديدة، وضمان حقوق العمال هو من الجيل الأول على حد علمي وهو ما يبرز كم متخلفون عن ركب الحضارة والتحضر.
ويختم الكوباكجي بالقول: «على أن تونس ان لا تنتظر محيطها وأن تبادر بالثورة على واقعها في كل الميادين وفي هذا الإطار وجب أن تكون المثال الذي يحتذى ومضرب الأمثال في منح حقوق العمال. فهذا التصنيف هو عار علينا وبكل ما للكلمة من معنى وما لم نتجاوزه بالبحث عن المعطيات التي جعلتهم يضعوننا في الصنف الرابع ونتجاوزها ونصلح هناتنا ستكون كارثة بكل المقاييس في مقبل السنوات، حيث ستكثر الاضرابات والاضطرابات للمطالبة بالحقوق وقد لا نهنأ بالسلم الأهلي. على دولتنا أن تكون سباقة في قراءة الواقع واستشراف المستقبل وأن تمنح حقوق أبنائها لتطالبهم أيضا بواجباتهم تجاهها».
أوكي..