النموذج التعاضدي التنموي على الصعيد الدولي
الأنوال بريس
التعاضدية العامة لموظفي الإدارات العمومية تنظم يوما دراسيا في موضوع: " إلى أي حد سيساهم التعاضد في بلورة نموذج تنموي جديد لتنزيل الجهوية المتقدمة؟"يوم 29 يونيو 2018بمراكش .
برزت التعاضديات كأول آلية لتوفير التأمين الصحي وكرائد في تقديم الخدمات الاجتماعية والصحية في العديد من دول العالم في مطلع القرن الماضي، معتمدة في ذلك على قيم التضامن والتكافل بين مختلف فئات المجتمع وشرائحه. وفي المغرب، شكل تأسيس أول تعاضدية سنة 1919 النواة الأولى للقطاع التعاضدي الذي تطور بوتيرة ملحوظة، حيث أنشئت في ستينات القرن الماضي أولى العيادات ومراكز علاج الأسنان ودور التوليد تابعة لهذا القطاع، وبعدهاعيادات متعددة التخصصات.
وقد أتاح تدخل القطاع التعاضدي تسهيل الولوج إلى العلاج والتطبيب والاستشفاء من الأمراض المكلفة أو طويلة الأمد، حيث أقامت التعاضديات شبكة من المنشآت الصحية والاجتماعية مما يقارب 200 وحدة منها 130 وحدة ذات طابع صحي، تقدم علاجات استشفائية وغير استشفائية (كعلاجات الأسنان والبصريات والكشوفات والتحاليل البيولوجية والتوليد، والمصحة والصيدلية التعاضديتين، وغير ذلك). وقد عملت التعاضديات كهيئات للتأمين الاجتماعي في سياق طالما طبعه النقص والتوزيع غير المتوازن للمنشآت العمومية والمعدات التقنية للقطاع الخاص. وبذلك أضحت متجذرة بعمق في مشهد الاحتياط الاجتماعي الوطني، وهي مؤهلة للاضطلاع بدور حاسم في تطوير منظومة التأمين التكميلي للتغطية الضحية الأساسية.
وقد تجدد الاهتمام بالنموذج التعاضدي على الصعيد الدولي، بعد الأزمة المالية العالمية لسنة 2008، حيث أقر البرلمان الأوروبي بأن التعاضديات استطاعت عموما تجاوز هذه الأزمة المالية مقارنة مع القطاعات الأخرى التي تقوم على الربح. وهذا ما بينه تقرير الوكالة مودي(Agence Moody) سنة 2009 الذي أبرز أن وجود التعاضديات يؤسس عاملا تنافسيا منفعيا بالنسبة لفئات اجتماعية عريضة يمكن أن يعزز قدرتها على العمل الاجتماعي والاقتصادي، فيما أكد تقرير البرلمان الأوربي لشهر يوليوز 2011 على أن هناك حجج اقتصادية قوية لتشجيع التعاضد، باعتباره مجالا هاما من مجالات التنمية المستدامة.
وفي ظل هذه النكسات الدورية التي تصيب النظام الرأسمالي صار البحث عن بدائل تنموية اقتصادية ذات بعد اجتماعي تفرض نفسها، وبرز ما يصطلح عليه اليوم " الاقتصاد الاجتماعي والتضامني" وفي صلبه التعاضد، وانصب الاهتمام على الأدوار التي يلعبها إنْ على الصعيد الاقتصاديّ أو البشريّ.
أما على الصعيد الوطني، فإنه في هذا المناخ الاقتصادي الدولي والتغيرات المجتمعية التي فرضتها العولمة، أعلن جلالة الملك محمد السادس نصره الله في خطاب العرش يوم 30 يوليوز 2009 عن اقتناعه بأن المغرب قد قطع أشواطا كبرى، في البناء الديمقراطي التنموي، وأوضح أن ما يعترض هذا المسار من عوائق واختلالات، يتطلب الانكباب الجاد على إزاحتها وتصحيحها لاستكمال بناء مغرب الوحدة والديمقراطية والتنمية وتأهيل بلادنا، لرفع تحديات سياق عالمي، مشحون بشتى الإكراهات والتحولات. وبالمناسبة اعتبر الجهوية المتقدمة واللاتمركز الواسع، محكا حقيقيا للمضي قدما في إصلاح وتحديث هياكل الدولة، و"خيارا مؤكدا لإصلاح وتطوير بنيات الدولة وترسيخ التنمية المندمجة."
وبتاريخ فاتح يوليو 2011 صوت المغاربة على دستور جديد نص على أن التنظيم الترابي للمملكة تنظيم لا مركزي، يقوم على الجهوية المتقدمة، كما رسخ التضامن التعاضدي المنظم من طرف الدولة باعتباره حقا ينبغي على الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية، أن تعمل على تعبئة كل الوسائل المتاحة، لتيسير أسباب استفادة المواطنات والمواطنين، على قدم المساواة، منه، إلى جانب باقي الحقوق.
وقد دشن جلالته بتاريخ 3 يناير 2010 المرحلة الثانية لإرساء نظام الجهوية المتقدمة، بتنصيب اللجنة الاستشارية للجهوية وعهد إليها ببلورة نموذج وطني لجهوية متقدمة لتواكب ورش الإصلاحات المؤسساتية.
واستكمالا لهذا المشروع التنموي الشامل فتح صاحب الجلالة الملك محمد السادس، نصره الله، بمناسبة ترؤس جلالته لافتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الثانية من الولاية التشريعية العاشرة يوم 13 أكتوبر 2017، النقاش حول النموذج التنموي لبلادنا، حيث أكد جلالته على أن المغرب قد حقق تقدما ملموسا، يشهد به العالم، إلا أن النموذج التنموي الوطني أصبح غير قادر على الاستجابة للمطالب الملحة، والحاجيات المتزايدة للمواطنين، وغير قادر على الحد من الفوارق بين الفئات ومن التفاوتات المجالية، وعلى تحقيق العدالة الاجتماعية.
ولأجل ذلك، دعا الحكومة والبرلمان، ومختلف المؤسسات والهيئات المعنية، كل في مجال اختصاصه، لإعادة النظر في نموذجنا التنموي لمواكبة التطورات التي تعرفها البلاد، معربا عن أمله في بلورة رؤية مندمجة لهذا النموذج، كفيلة بإعطائه نفسا جديدا، وتجاوز العراقيل التي تعيق تطوره، ومعالجة نقط الضعف والاختلالات، التي أبانت عنها التجربة. وذلك وفق مقاربة تشاركية لكل الكفاءات الوطنية، والفعاليات الجادة، وجميع القوى الحية للأمة.
جدير بالإشارة إلى أن وقوع الاختيار على الاقتصاد الاجتماعي والتضامني كبديل للاقتصاد الرأسمالي لأن أساسه هو البعد الاجتماعي المبني على مبدأ التضامن، ولكونه يعمل على التوفيق بين مبادئ الإنصاف والعدالة الاجتماعية وبين التطوّر الاقتصاديّ، ويعتمد آليات جديدة توفق بين حيويّة الديناميات الاقتصاديّة وبين المبادئ والغايات الإنسانيّة للتنمية. وبذلك أصبح يشكل الدّعامة الثالثة، إلى جانب القطاع العان والخاص، التي يُطالب أنْ يقُومُ عليها الاقتصاد المتوازن والمُدْمِج، وطريقا ثالثا ينْطوي على ما يكفي من الإمكانات والوسائل التي تجعله قادراً على تعبئة وتوفير ثرواتٍ هامّة، مادّية وغيْر مادّية، من شأنها تحقيق التنمية الاجتماعية والمجالية المستدامة
وجدير بالذكر، أنه حسب آخر إحصائيات صادرة عن المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي سنة 2013 يستفيد من خدمات هذا القطاع 4.5 مليون مواطن، من بينهم 1.5 مليون منخرط، وتقدر مداخيله بمبلغ 385.2 مليار درهم، وتقارب نفقاته 140.2 مليار درهم بفائض يقدر بما يناهز 180 مليون درهم.
ولأجل تأهيل هذا القطاع، اقترح المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي المغربي مجموعةً من الإجراءات تسمح لهذا للاقتصاد الاجتماعي والتضامني بأنْ يصبحَ قائما بذاته ويعرفَ تطوّراً قويا من حيث قدْرَتُهُ على خلق القيمة الاقتصاديّة وإنْتاج نموّ مُدْمِجٍ. ومن بين هذه الإجراءات ما يخص التعاضديات، باعتبارها أحد ركائز هذا الاقتصاد.
ومن تم يتضح أن أي مقاربة لنموذج تنموي لبلادنا لا يمكنها أن تتجاهل القطاع التعاضدي الذي يمكن أن يشكل قيمة مضافة لهذا النموذج التنموي باعتباره يقوم على مبادئ التضامن والديمقراطية التشاركية ويهدف لتحقيق العدالة الاجتماعية والمجالية في الولوج للعلاج والتطبيب والخدمات الصحية بصفتها حقا أساسيا من حقوق الإنسان.
وسعيا منها للمساهمة في النقاش الدائر حول النموذج التنموي الجديد لبلادنا، تنظم التعاضدية العامة لموظفي الإدارات العمومية يوما دراسيا لأجل الإجابة على مجموعة من التساؤلات لتحديد دور التعاضد في هذا النموذج التنموي وموقعه إلى جانب باقي الدعامات التي يقوم عليها، ومن ذلك على سبيل المثال:
- ما مدى نجاعة الاقتصاد الاجتماعي والتضامني من زاوية الدور الفعال للنظام التعاضدي؟
-كيف يمكن للنظام التعاضدي المساهمة في إرساء أسس جهوية متقدمة تقوم على مبدأ الحكامة الترابية؟
-ما تأثير تغييب قطاع التعاضد أو إضعاف دوره على نجاعة التصورات التنموية للمجتمع المغربي.
-ما هي حظوظ نجاح أي نموذج تنموي إذا لم يأخذ بعين الاعتبار قطاع التعاضد، باعتباره ركيزة للاقتصاد الاجتماعي والتضامني؟
-إلى أي حد يمكن أن يساهم قطاع التعاضد في ضمان أسس نجاح النموذج التنموي المنشود لبلادنا؟
-كيف يمكن لتصور النموذج التنموي الجديد تحقيق العدالة الاجتماعية والمجالية، دون الاعتماد على النظام التعاضدي في مجال التغطية الصحية والحماية الاجتماعية؟
- كيف يمكن ترسيخ النظام التعاضديكقيمة مضافة للنموذج التنموي الجديد بالمغرب؟
-كيف يمكن للاقتصاد الاجتماعي والتضامني أن يساهم في ترسيخ السلم الاجتماعي داخل المقاولة؟
أوكي..