فنانون يفسدون المائدة الرمضانية…
الأنوال بريس -الطاهر الطويل-
عشنا… حتى رأينا سياسيين ورجال مال وأعمال يرفعون الراية البيضاء، معلنين هزيمتهم أمام قوة ناعمة وغير مرئية، انطلقت في فضاء الإنترنت الافتراضي، حاملة سلاح الكلمة والصورة، لتجد التفاعل السريع والمباشر على أرض الواقع، فقد بلغ السيل الزُّبَى، واكتوى المواطن المغربي بغلاء أثمان المواد الاستهلاكية، فكان القرار: مقاطعة أنواع محددة من الحليب والماء والبنزين.
ونقلت كاميرات التلفزيون ملامح مسؤولين حكوميين مغاربة وقد بدت عليها المسكنة، بعدما كانوا يطلقون التهديد والوعيد، فجاؤوا يلتمسون الصفح من المواطنين. واللافت للانتباه أن عثرات اللسان وتقلباته اقتصرت على وزراء حزب «العدالة والتنمية»، إذ فضّل باقي الوزراء المنتمين لأحزاب الائتلاف الحكومي لجم ألسنتهم، لأن «اللسان ما فيه عظم» كما يقول المثل العامي، وجنحوا للصوم عن الكلام، حتى لا يثيروا حولهم الزوابع، مثلما حصل مع وزير الاقتصاد والمالية محمد بوسعيد (المنتمي لحزب الأحرار) الذي أطلق على مقاطعي المنتجات الاستهلاكية وصف «المداويخ» (أي المصابون بالدوار)، فازدادت شرارة المقاطعة واتّسعت قاعدة المقاطعين.
وسيرًا على نهج التوسّل الذي سَـنّه بعض الوزراء، شرع مسؤول التواصل في شركة الحليب التابعة لـ «ماما فرنسا» في استدرار عواطف المستهلكين، خلال استضافته في إحدى النشرات الإخبارية. ولم تكتف شركة إنتاج الحليب بذلك، بل حجزت مساحات إعلانية في ذروة المشاهدة التلفزيونية خلال رمضان الحالي، وأطلقت حملة دعاية تجارية شعارها «خلّينا نتصالحو» (دعونا نتصالح) اقتداء بأغنية نادية مصطفى الشهيرة «الصلح خير». لكن، يبدو أن مَن صاغ هذا الشعار يمتلك جرعات زائدة من الذكاء الخارق والعبقرية الفذة، لأن تلك الدعوة إلى التصالح تعني أن أحد الطرفين خاصم الآخر: إما أن الشركة خاصمت المستهلك، وإما أنه هو الذي خاصمها. المهم، الخصومة حصلت. وحتى تلعب شركة الحليب على الوتر الإنساني الحساس من أجل استمالة المستهلكين، أوكلت مهمة تقديم الإعلان التجاري التلفزيوني لعدد من العاملين والعاملات فيها، حتى توهم بارتباطها بالطبقة الشعبية، مستبعدة بذلك اللجوء إلى مسؤولين بها أو غيرهم. وكدليل على طلب الصلح، روّجت الشركة لفكرة أنها ستخفض من ثمن الحليب بدرهم في الليتر الواحد، لكن هذا التخفيض (أو التنزيل) مجرد عملية ظرفية، إذ يقتصر على شهر رمضان فحسب، في محاولة للتخلص من مخزون الحليب قبل أن «يريب». بيد أنّ الكثير من المواطنين فطنوا للحيلة، فأمسوا يفضّلون شراء أنواع أخرى من الحليب، على أن يقتنوا الحليب المخفّض بدرهم واحد.
وكان أحرى بالشركة التي سكبت أموالها في الإعلانات التلفزيونية اليومية، بشكل مكثف، أن توجّه تلك الأموال نحو أُسَر العاملين فيها، أو نحو الفلاحين البسطاء الذين تقتني منهم الحليب، وتستجيب لمطلب المستهلكين بتخفيض أثمان الحليب ومشتقاته، عوض أن تركب عنادها وتلجأ إلى خدعة لم تنطل على أحد تقريبا. ولكنّ جشع الرأسمال المتوحش لا يتوقف عند حد!
«نجوم» رغم أنف المشاهدين!
واقتداءً بالنجاح المدوّي الذي تشهده حاليًا عملية مقاطعة بعض المنتجات الاستهلاكية في المغرب، انطلقت منذ بضعة أيام دعوة موجهة إلى مُشاهدي التلفزيون كي يهجروا هجرا جميلا جل الأعمال الكوميدية التي تقدم خلال رمضان الحالي، وذلك لكون أصحابها يضحكون على ذقون المشاهدين، بموضوعات سخيفة وحركات ممجوجة وعبارات بذيئة.
واللافت للانتباه أن بعض المنتجين التلفزيونيين أخذوا يلجؤون إلى أشخاص حققت فيديوهاتهم على الإنترنت عددا مهما من المشاهدات (مع العلم بأن هذه العملية مشكوك في مصداقيتها ونزاهتها، لأن المشاهَدات و«اللايكات» تُشترى بالأموال، فالعقلية الأمريكية التي تقف وراء «اليوتيوب» و«الفيسبوك» وغيرهما، تقول لك: ادفع أكثر، أُعطك عددا أوفر من علامات الإعجاب والتصفح!)
ومن ثم، فإن الذين يُخيّل لهم أنهم نجوم في «اليوتيوب»، يعتقدون أنهم يمكن أن يكونوا كذلك في التلفزيون، وصدّقهم منتجو الأعمال الكوميدية، فطفقوا يحاولون إيهام المشاهدين بهذه الخدعة التي لا تحتاج إلى موهبة حقيقية ولا إلى خلفية ثقافية ولا إلى دراسة أكاديمية متخصصة، بل كل ما تحتاجه هو فقط، قدرة على جحوظ العينين وافتعال اعوجاج الفم والتفوّه بكلمات مستقاة من قاموس الشارع!
كوة ضوء
من بين النقط المضيئة، القليلة، في الإعلام السمعي البصري المغربي برنامج «عندي ما يفيد» الذي يقدمه على قناة «تيلي ماروك» الإعلامي والممثل مراد العشابي، حيث يستضيف فنانين ويحاول أن يقرّب المشاهدين من شخصياتهم وجوانبهم النفسية بطريقة مرحة وخفيفة، دون السقوط في الإسفاف والابتذال. إنه يطرح على ضيوفه أسئلة جريئة وأحيانا غريبة، مزاوجا بين الجدية والرصانة من جهة والطرافة والدعابة من جهة أخرى، كاشفا عن حس كوميدي رفيع، دون أن يغرق صاحبه في افتعال الضحك أو اعوجاج الفم، كما يفعل آخرون.
ومن ثم، يمكن القول إن مراد العشابي نموذج للممثل والإعلامي المتسلح بزاد معرفي، وبقيمة العمل التلفزيوني الذي يجمع بين المتعة والفائدة.
أوكي..