الصحراء المغربية على محك الأداء الدبلوماسي
الأنوال بريس - حسن السوسي -
المغرب في قضية الصحراء هو صاحب المبادرة الاستراتيجية الإيجابية منذ طرح مشروع الحكم الذاتي الواسع لأقاليمنا الجنوبية لكي نتحدث عن العقد الأخير من عمر الملف الطويل.
ليس ملف الصحراء المغربية والنزاع الإقليمي المفتعل حولها قضية سياسية عادية، يمكن مقاربتها بمفردات سياسية عادية، وإنما هي قضية شعب ومصير شعب قاوم الاستعمار الإسباني باستمرار، كما حاوره في فترات بعينها، لوضع حد لاحتلاله مناطق عديدة في الشمال والجنوب المغربيين معا.
ولأن دولا إقليمية اختارت منـاوأة مساعي المغرب وجهوده لاستكمال وحدته الترابية، فإنها بتدخلاتها السياسية والعسكرية المباشرة، في فترات معينة، وغير المباشرة، باستمرار، من خلال تشكيل ميليشيات مسلحة وتوفير كل أشكال الدعم لها، بما في ذلك قواعد انطلاق اعتداءاتها على المغرب، عقدت الأوضاع وأضفت نـوعا من الغبش على الرؤية بالنسبة إلى البعض ممّن لم يدركوا طبيعة الاستراتيجيات المتنازعة في موضوع الصحراء المغربية. وهي استراتيجية التحرير وتقرير مصير الشعب المغربي، أولا، واستراتيجية الهيمنة على المنطقة، ثانيا، والتي كانت وظلت استراتيجية القيـادة الجـزائرية التي تـرى في المغرب العائق الأساسي أمام تنفيذ خططها في أفريقيا، فقررت استخدام كل الوسائل الممكنة لعزله وإغراقه في مشاكل تبعده عن تركيز اهتمامه على شؤون التنمية الداخلية وتوسيع دائرة الأمن والاستقرار في المنطقة.
بما أن ملف الصحراء المغربية بهذا التعقيد، فإن معالجته ليس ممكنا لها أن تتجاهل هذا البعد، بما يضمره من نجاحات وإخفاقات وكر وفر في مختلف المجالات السياسية والدبلوماسية، إذا جازت لنا استعارة مفردات الحرب في هذا المجال. لأن الواقع يؤكد أنها حرب فعلا، تخاض من قبل المغرب دفاعا عن ترابه الوطني ووحدة شعبه.
وتخاض من طرف خصومه لعرقلة هذا المسعى، ولو تطلب ذلك منهم الاستعانة بأطروحة الاستعمار الإسباني الأصلية حول ما سماه “الشعب الصحراوي” ومزاعم الحق في تقرير المصير وإنشاء دولة قزمية جديدة في المنطقة على حساب الوحدة الترابية المغربية.
مقاربة تحركات خصوم المغرب في ملف الصحراء تفيد بأنهم لم يستطيعوا الخروج من دائرة رد الفعل الرامي إلى إسقاط المبادرة المغربية أو إبعاد الأنظار عنها، تارة بواسطة الاستفزاز السياسي وتارة أخرى من خلال التهديد بالعدوان العسكري
الخطأ هو ابن الممارسة، غير أنه ليس ابنها الوحيد؛ إذ لها أبناء عديدون، غالبا ما يتجاهلهم المنتقد المغرض للممارسة، بينما يعتبر النقد الموضوعي أن الممارسة تقاس، فشلا ونجاحا، اعتمادا على أخذ نتائجها جميعها بعين الاعتبار في عملية التقويم؛ أي محاكمة الممارسة على أساس متعدد الجوانب وليس وحيدا وطبيعة الأهداف المرسومة في ظل الـوعي بالتحديات والعقبات التي تواجهها كل ممارسة متعددة الأطراف.
والملاحظ أن عددا من متناولي السلوك الدبلوماسي المغربي في إدارة ملف الصحراء غالبا ما يتناسى هذه القاعدة في التقويم لتسليط الأضواء، بشكل شبه حصري، على ما يعتبر نقائص في ذلك السلوك إلى درجة يتم معها حجب كل الأبعاد الأخرى، وخاصة منها الأبعاد الاستراتيجية التي ليس ممكنا مقاربة قضية الصحراء دون الانطلاق من محدداتها الأساسية وقراءة الواقع في ضوئها وبالنسبة إليها.
وليس هناك مجال للشك في أن قضية الصحراء المغربية لم تحد قط عن محدداتها الاستراتيجية، وأن إدارة الملف، من قبل الدولة المغربية، لم تخرج قط عن خدمة هذه المحددات، بغض النظر عن التفاوت الممكن في تقدير مستجدات الملف، في هذه الفترة أو تلك، والاختلالات التي يمكن أن تبرز هنا أو هناك والتي يتم التعامل معها بما تستحقه من المراجعة وإعادة تصويب البوصلة عند الاقتضاء. كما تم ذلك بخصوص الموقف من مؤسسات القارة الأفريقية الرسمية الذي تحول من المقاطعة المنهجية إلى المشاركة الفاعلة والمبادرة.
ينبغي إذن التمييز بين اللحظات الانعطافية في الملف وبين تموجاتها وردود الفعل الناجمة عنها. فعودة المغرب إلى الاتحاد الأفريقي، من هذه الانعطافات الجوهرية في ملف الصحراء، لأنها تتويج لمسار سياسي دبلوماسي منهجي قاده المغرب تحت الإشراف الفعلي للعاهل المغربي الملك محمد السادس خلال عقدين متواصلين تقريبا.
وبالتالي لن يؤثر فيها، في شيء، حجز باخرة فسفاط مغربي في جنوب أفريقيا الذي تم التطبيل له كما لو كان إنجازا سياسيا استراتيجيا، في حين أنه مجرد عملية قرصنة يمكن لأي مجموعة هنا أو هناك أن تقوم بها.
وعلى نفس المستوى، فإن سحب الاعتراف المتواصل من قبل دول أفريقيا والعالم بجمهورية الوهم الصحراوي، يعد تحولا نوعيا في الملف، ولن يغطي عليه قرار محكمة العدل الأوروبية بخصوص اتفاقية الصيد البحري الموقع بين الاتحاد الأوروبي والمغرب.
تأويل المحكمة لا يـرقى إلى قـرار الاعتراف بدولة وهمية لم تكن لديها أي مقومات وجود، علاوة على أن القرار جاء في سياق الخضوع لضغط منظمة غير حكومية بريطانية تبنت قضية الانفصال وتغدق عليها الجهات الراعية له الدعم بمختلف أشكاله دون رقيب أو حسيب. أضف إلى هذا وذاك أن المفوضية الأوروبية أعلنت أنها ستحرص على أن تتضمن الاتفـاقية المقبلة مع المغرب ما يفيـد كونها تشمل مختلف المياه الإقليمية المغربية بما في ذلك الصحراء.
نعم، هناك من يؤاخذ الدبلوماسية المغربية في الآونة الأخيرة على دورانها في دائرة ردود الأفعال بدل اتخاذ مبادرات تحشر الخصوم في زوايا ضيقة على مختلف المستويات. لكن الذي هو حاصل، بحسب هذا البعض، هو أن جبهة البوليساريو الانفصالية ومن يدعمونها هم الذين يتخذون مبادرات بشكل متواصل تضع المغرب في موقع ردود الأفعال التي لا تكون دائما موفقة نظرا لطبيعتها.
يمكن النظر إلى هذا الرأي من زاويتين أساسيتين؛ أولاهما مبدئية، بينما الثانية عملية مرتبطة بالممارسة الفعلية لمختلف الأطراف. فليس ممكنا على المستوى المبدئي اختزال الدبلوماسية، أي دبلوماسية، لدولة صغيرة أو كبيرة كانت، في المبادرة الدائمة. كما ليس ممكنا حصرها في دائرة ردود الفعل الدائمة، وذلك لسبب بسيط هو أن تعدد الفاعلين السياسيين والدبلوماسيين ناجم عن تعدد الدول وتنوع مصالحها وتناقض أو تقاطع مصالحها الخاصة أو أنه يندرج في سياق تحالفاتها التكتيكية أو الاستراتيجية.
ليس هناك، على أرض الواقع، أي مبادرة أخرى، جزئية أو شاملة، تحظى بأي جدية. ومقاربة تحركات خصوم المغرب، على هذا المستوى، تفيد بأنهم لم يستطيعوا الخروج من دائرة رد الفعل الرامي إلى إسقاط المبادرة المغربية أو إبعاد الأنظار عنها
وبما أن العمل الدبلوماسي مزيج دائم من المبادرات وردود الأفعال، فإن التقويم ينبغي أن ينصب، أساسا، على طبيعة المبادرات ونوعية ردود الأفعال، لأن المبادرة ليست بالتعريف إيجابية، في كل الأحوال، كما أن ردود الفعل ليست سلبية في كل الأحوال، لكونهما معا نتيجة ظروف موضوعية وضرورات مرتبطة بكل ممارسة متعددة الأطراف والاستراتيجيات.
انطلاقا من هذه القاعدة، وعلى المستوى العملي الملموس، يبدو أن المغرب في قضية الصحراء هو صاحب المبادرة الاستراتيجية الإيجابية منذ طرح مشروع الحكم الذاتي الواسع لأقاليمنا الجنوبية لكي نتحدث عن العقد الأخير من عمر الملف الطويل.
وليس هناك، على أرض الواقع، أي مبادرة أخرى، جزئية أو شاملة، تحظى بأي جدية. ومقاربة تحركات خصوم المغرب، على هذا المستوى، تفيد بأنهم لم يستطيعوا الخروج من دائرة رد الفعل الرامي إلى إسقاط المبادرة المغربية أو إبعاد الأنظار عنها، تارة بواسطة الاستفزازات السياسية وتارة أخرى من خلال التهديد بالعدوان العسكري.
وليست تحركات البوليساريو في منطقة الكركرات بعيد الهزيمة التي منيت بها تجاه الهجوم الدبلوماسي المغربي على صعيد القارة الأفريقية وعودته إلى مؤسسات القارة غير نموذج صارخ لهذا النوع من الاستفزازات والمحاولات التي أريد بها جس النبض المغربي ومدى صرامته في التعامل مع هكذا تصرفات، وهو ما أعطت الرباط الدليل القاطع على أنها لن تخضع لهذا النوع من الاستفزاز وأنها مستعدة للمواجهة الساخنة إذا اقتضى الحال. الأمر الذي دفع بالأمين العام للأمم المتحدة إلى المطالبة باحترام خطة وقف إطلاق النار في المنطقة وعدم القيام بما يمكن أن يغير من الأمر الواقع، لما يشكله ذلك من تهديد لأمن واستقرار المنطقة برمتها.
وهو الموقف الذي عبر عنه مجلس الأمن الدولي مرة أخرى بعد إفادة المبعوث الشخصي للأمين العام مؤخرا أمام المجلس والذي ليس له تفسير آخر غير الإعلان عن عـدم رضى المجلس عن التحركات الاستفزازية لميليشيات البوليساريو في المناطق العازلة التي تحاول إعطاءها صفة ليست لها، في القانون الدولي، مثل المناطق المحررة، مع العلم أن قرار تركها عازلة يعود إلى المغرب الذي اعتبر أنه تفاديا لأي اصطدام ممكن مع القوات الجزائرية أو الموريتانية عند مطاردة عصابات البوليساريو المسلحة، وتعبيرا عن حسن نواياه عبر القيام بكل ما يمكن القيام به لتفادي التصعيد، فإن ترك مناطق خارج سيطرة الجيش والقوات المسلحة الملكية يمكن أن يساهم في تحقيق هذا المسعى.
فهل هذا يعني أن الدبلوماسية المغربية لم تعش مشاكل في تدبير ملف الصحراء المغربية والنزاع الإقليمي المفتعل حولها؟ الجواب بنعم، ليس ساذجا فحسب، وإنما هو ضرب من الخيال غير المنتج.
لكن ما يمكن الجزم به هو أن هذا الأداء لم يحد قط عن جوهر استراتيجية الدفاع عن السيادة الوطنية المغربية على أقاليمنا الجنوبية. وهذا هو الفيصل في تقدير المواقف وليس في رصد هفوات هنا أو اختلالات هناك ما دامت لا تضر بالجوهر ويتم تداركها بمجرد الوقوف على حقيقتها.
أوكي..