نخب ودول في انتظار الوهم "المنقذ" دونالد ترامب الذي قد لا يتسلم السلطة !
الأنوال نيوز :الحروني العلمي - عضو المجلس الوطني للاشتراك الموحد
رأي عام كبير، ليس فقط وسط الرأي العام الأمريكي والعالمي بل وعلى مستوى دول العالم الغربي والعالم ثالثي، يرى أو يحاول رؤية ترامب كرجل منتصر و " كمنقذ"، وأن عودته ستعيد العظمة الأمريكية أو على الأقل تحافظ على ديمومة مستواها الحالي كدولة سائدة، وينسى هذا الرأي العام أن فوزه تم في مجتمع واقتصاد يتفكك فعليا، بل وفي دولة تخسر حربا على مستوى عالمي ضد روسيا بالرغم من الإنفاق الضخم جدا على عليها.
وبالفعل، فحسب فأن "الولايات المتحدة قدمت أكثر من 66.5 مليار دولار كمساعدات لأوكرانيا أثناء ولاية الرئيس جو بايدن" واعتبارا من 30 سبتمبر 2024، بلغ إجمالي تمويل الاستجابة الأمريكية لأوكرانيا ما يقرب من 183 مليار دولار، مع التزام بمبلغ 130.1 مليار دولار وصرف 86.7 مليار دولار.
كما أنه وحسب وكالة " بلومبيرغ" فإن انتصار روسيا في أوكرانيا سيكلف الولايات المتحدة 808 مليار دولار وأن هذا الانتصار من شأنه أن يجبر البنتاغون على زيادة الإنفاق بما يزيد على 800 مليار دولار بحلول عام 2029.
الجميع يعيش في "نشوة" قوة ترامب الخارقة كشخصية سحرية وقدرته على " الإنقاذ، غير أنه سيمر في التاريخ، سواء بالنسبة لمؤيديه أو منتقديه، باعتباره رئيسا شاهدا على هزيمة الولايات المتحدة، ومرحلة ترامب ستكون مرحلة إدارة هذه الهزيمة أمام الاتحاد الروسي، وعلى الجميع إدراك ما سيعيشه العالم في لحظات بداية المرحلة المقبلة للعشرين من فبراير 2025.
النقاشات الجارية حول القضايا الأمريكية الحالية بالعلاقة مع تأثير ترامب فيها ستصدم الجميع، لأن الواقع الملموس يفيد أن التاريخ يميل نحو تراجع القوة الأمريكية ولا راد لهذه الحركة. هذا التراجع يعكسه انحدار مستمر في منحى القدرات الإنتاجية الأمريكية، العسكرية والصناعية، ولا يمكن لشخص واحد تغييره أو وقف التراجع الحاصل، مهما كانت كفاءته أو قوته.
ساهمت عدة عوامل في أفول الغرب ومركز قوته في الولايات المتحدة، ومن مظاهر ذلك، عجز أمريكي ومعها الغرب في دعم أوكرانيا، عجز يربطه المختصون، من علماء الاقتصاد والسوسيولوجيا والتاريخ، بعاملين أساسين ساهما في العجز الحاصل في تصنيع الذخائر والصواريخ مثلا، ليس هذا وليد اليوم بل منذ عقود خلت.
يتعلق العامل الأول بتواتر انخفاض المستوى التعليمي في أمريكا منذ ستة عقود ( منذ 1965) تتجلى مظاهر ذلك في عدم كفاية التدريب الهندسي خاصة وتسجيل فجوات التحصيل الدراسي في الولايات المتحدة، والتفاوتات المستمرة في مقاييس الأداء التعليمي. هذا المنحى الإنحداري تؤكده دراسات واستطلاعات رسمية، إذ نقلت شبكة NPR "National Public Radio"، بيانات صادرة عن "التقييم الوطني للتقدم التعليمي" تخلص إلى أن "متوسط درجات الإختبار للأطفال في الولايات المتحدة بعمر 13 عامًا، قد انخفض في القراءة، خصوصًا بشكل حاد في مادة الرياضيات منذ عام 2020.
سبب هذا الانحدار في مستويات للطلاب الأمريكيين راجع لجائحة كورونا والعنف المدرسي وسائل التواصل الاجتماعي ، وتبقى الصحة العقلية للطلاب، التي انفجرت مؤخرا أقوى الأسباب، حيث كشفت صحيفة "واشنطن بوست" استنادا للبيانات الفيدرالية، أن "أكثر من 75 في المائة من المدارس التي شملها استطلاع أجري سنة 2024، يعيش فيها الطلاب حالات الإكتئاب والقلق والصدمات"، ويؤكد استطلاع أجرته مؤسسة بيو للأبحاث Pew Research هذا العام حدوث قفزة في عدد الطلاب الذين يسعون للحصول على خدمات الصحة العقلية.
كما أن "عدم التشديد على صرامة برامج التدريب التربوي"، و "مشكلة الإنفاق" (فأمريكا وفقا لدراسة أجريت عام 2022 لا تنفق ما يكفي على التعليم : 4.96% من ناتجها المحلي الإجمالي، مقابل 5.59% في عديد من الدول المتقدمة) و أخيرا " التمييز القائم على مستوى الموارد التعليمية وقلة العطاءات وضحالة المنح المقدمة" مما سبب فجوة تعليمية بين الطلاب الذين ينتمون إلى طبقات اجتماعية واقتصادية مختلفة.
العامل الثاني، ثقافي أكثر عمقا، يتعلق بتراجع "أخلاقيات العمل البروتستانتية" التي كانت ركيزة قوة الغرب بالمفهوم الثقافي الواسع (أميركا، بريطانيا، ألمانيا، الدول الاسكندنافية خاصة) محور الرأسمالية الاقتصادية والليبرالية الفردية، وهي القيم التي كانت وراء ظهور العقلية الرأسمالية في أوروبا كافة، فإذا كان صعود تلك الأخلاقيات سبب صعود الغرب، فإن اختفاءها اليوم هي سبب خفوته.
تركز "أخلاقيات العمل البروتستانتية"، مفهوم في علم الاقتصاد وعلم الاجتماع والتاريخ، يعزى إلى أعمال "ماكس فيبر" المستندة على أفكار " جان كالفن" المؤسسة على قيم "مارتن لوثر"، على الأعمال الدنيوية، وتعتبر العمل كواجب يستفيد الفرد والمجتمع معا، وبالتالي تشجع على تراكم الثروات واعتبرتها "نعمة من عند الله"، وتشجع على قيم الانضباط والعمل الشاق والإخلاص، وتحث تعاليمها على الإنتاج بدل الاستهلاك وعلى استثمار الأرباح لخلق المزيد من فرص العمل للمحتاجين والمساهمة في بناء مجتمع منتج وحيوي.
قيم أخلاق العمل البروتستانتية هي أحد الأسباب العميقة لنشوء الثورة الصناعية. وبالفعل، فقد خلصت دراسة، في مطلع الألفية، المعروفة باسم (CMRP) إلى الخلاصات التالية :
-أن المجتمعات التي تسيطر عليها الثقافة البروتستانتية، تميل إلى العمل والاجتهاد والإنجاز والابتكار أكثر من المجتمعات التي تسيطر عليها ثقافات دينية أخرى مثل الكاثوليكية والبوذية والهندوسية،
-لدى الدول ذات الثقافة والأغلبية البروتستانتية مؤشر مرتفع للتنمية البشرية والناتج المحلي، وتتربع العديد من الدول البروتستانتية قائمة أغنى دول العالم، والدول الأقل فسادا في العالم،
-لدى العديد من المجتمعات البروتستانتية في دول غير بروتستانتية نفوذ اقتصادي كبير لا يتناسب مع وزنهم العددي، يظهر ذلك على سبيل المثال في فرنسا حيث للبروتستانت نفوذ كبير في الصناعة والاقتصاد والشركات المالية والبنوك، وكوريا الجنوبية حيث معظم الشركات الكبرى بالبلاد يديرها مسيحيون بروتستانت.
خلاصة القول، أن وهم معظم النخب وجل الدول ورهانها على الرئاسة الامريكية الجديدة بقيادة دونالد ترامب واعتباره "المنقذ" لأمريكا والغرب من أزمتها البنيوية المزمنة وتصدعها خلال الصراع العالمي المحموم بأوكرانيا وبباقي المناطق التي تفجر فيها هذا الصراع، وكذا انهزامها المحتمل أمام الحلف الأوراسي بقيادة الصين وتخطيط الاتحاد الروسي، وهم واه ورهان وخاسر يفنذهما الواقع في الأرض، وغاية ما سيقوم به ترامب في ولايته هو إدارة أزمة الإنهيار.
وهناك مؤشرات قد تدفع الأولغارشية الأمريكية (أو الصهيونية) في التفكير في التخلص من ترامب بحبك عملية اغتياله قبل استلامه السلطة يوم 20 فبراير 2025 أو بعدها، أو تحريك محاكمات قد تعصف به لكي لا يكمل ولايته خاصة وأن مصالحها الجيوستراتيجية والجيواقتصادية أعمق مما يمكن تصوره.
أوكي..