كاتدرائية نوتردام بفرنسا والدبلوماسية الروحية لأمير المؤمنين في دعم التعايش والسلام عبر العالم
الأنوال نيوز بقلم : د. خالد التوزاني
أستاذ جامعي، جامعة مولاي إسماعيل بمكناس، ورئيس المركز المغربي للاستثمار الثقافي، مساق ومتخصص في الأدب والتصوف والجماليات، مؤلف كتاب: التسامح بين الأديان من منظورالدبلوماسية الروحية، والذي حاز جائزة المختار الكنتي للثقافة العالمة، عام 2009.
لم تكن الدبلوماسية الروحية لجلالة الملك محمد السادس بوصفه أميراً لكل المؤمنين، مجرد تعبيرعن مشاعر الأخوة الإنسانية، أو التسامح بشأن حرية الممارسات الدينية، وإنما شكّلت أيضاً، وهذا هو المهم، ممارسة عمليةً وواقعاً حقيقياً في الميدان، من خلال دعم أتباع الديانات الأخرى، في بلدانهم وفي ترميم العديد من أماكن العبادة عبر العالم، فالمغرب تحول من أرض التسامح إلى نموذج رائد في إشاعة روح التسامح الحق عبر مبادرات عملية تسهم في التقريب بين البشر على اختلاف أديانهم ومعتقداتهم، والواقع أن عدداً من الأحداث الكبرى في مناطق متفرقة من العالم، قد كشفت عن جدية هذه الدبلوماسية الملكية الروحية.
ومن تلك الأحداث، يأتي حدث الحريق الذي دمّر كاتدرائية باريس عام 2019، حيث كان أمير المؤمنين الملك محمد السادس، حفظه الله، من أوائل القادة والزعماء الدينيين الذين بادروا بالتعبير عن مشاعرالمواساة للشعب الفرنسي إثر هذا الحدث، ليتوج بمبادرة عملية تتمثل في تقديم جلالة الملك لمساهمة مالية من أجل إعادة بناء كاتدرائية نوتردام دوباري، وهي المبادرة التي لقيت استحساناً دولياً، وخاصة من لدن أتباع المسيحية عبر العالم، وعلى رأسهم المطران ميشيل أوبيتي، رئيس أساقفة باريس، الذي عبّر عن شكره وعميق امتنانه وتأثره بالمبادرة الملكية السامية.
وقد جاءت هذه البادرة من أمير المؤمنين تعبيراً عن التزاماته الدينية والإنسانية التي تتعلق بحماية الشأن الديني عبر العالم برمته، بغض النظر عن دين بعينه، انطلاقاً من روح الشريعة الإسلامية التي جاءت رحمة للعالمين، فكان من تجليات هذه الرحمة إحسان أمير المؤمنين ورحمته بكل الفئات، حيث يجد هذا النهج الإنساني والديني لأمير المؤمنين، جلالة الملك محمد السادس، أساسه في روح الشريعة الإسلامية
التي تعلي من قيم الرحمة والتسامح. وكما جاء في قوله تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ (آل عمران: 159)، فإن القيادة الحكيمة القائمة على اللين والرحمة هي التي تجمع القلوب وتوحد الشعوب.
لقد جسّد جلالة الملك محمد السادس هذه القيم في كل خطواته، حيث كان رحيماً بالآخرين وحكيما في رؤيته الإنسانية وفي تعامله مع قضايا العالم الدينية والثقافية. ولذلك فإن دعمه المادي غير المشروط والذي جاء بمبادرة خاصة منه، لإعادة بناء كاتدرائية نوتردام دوباري بفرنسا، وهي الدولة التي استعمرت المغرب، يؤكد خلق الرحمة والإحسان التي تطبع شخصية أمير المؤمنين في المغرب، وتؤكدها ثوابت المملكة المغربية في أخلاق الرحمة واللين وحسن الجوار ودعم السلام والتسامح
والوسطية والاعتدال والدفاع عن القضايا الإنسانية ضمن رؤية حكيمة تنظر للبشرية بعين الرحمة وبوصفها أسرة واحدة، وهو المنهج الذي يعلي من شأن الإنسان وقيمته بغض النظر عن دينه أو عرقه.
وتأتي هذه المبادرات بمثابة ترجمة عملية للأخلاق الإسلامية السمحة، في الدعوة إلى التعامل مع الناس جميعاً باللين والرحمة، حيث تكشف عن سمو الأخلاق الملكية السامية التي تعمل على إشاعة الألفة بين الشعوب وتعزيز التفاهم بين الأديان، في وقت بات العالم في أمسّ الحاجة إلى مثل هذه القيادات التي تجمع ولا تفرق، وتبني ولا تهدم، وتؤسس للسلام والتسامح والتصالح والعمل المشترك لأجل خدمة الإنسان والإنسانية.
أخيراً، تأتي مبادرة أمير المؤمنين، جلالة الملك محمد السادس، تأصيلاً لنهجه القويم في تعزيز قيم التعايش والسلام، وحرصه على حماية التراث الإنساني المشترك، بغض النظر عن الانتماء الديني أو الثقافي. فقد حملت هذه المبادرة الملكية رسالة واضحة إلى العالم بأن المغرب، بقيادة جلالة الملك محمد السادس، يسعى لترسيخ قيم التسامح ليس فقط على مستوى الخطاب، بل عبر أعمال ملموسة تستهدف التقريب بين الشعوب والثقافات.
وتأتي هذه الدبلوماسية الروحية للملك انسجاماً مع الدور التاريخي الذي اضطلعت به المملكة المغربية، عبر التاريخ، بوصفها ملتقى للحضارات وموئلاً للسلام، حيث شكل المغرب على مر العصور نموذجاً فريداً في احتضان التنوع الديني والثقافي، كما تعكسه العلاقات الوطيدة التي تربط المملكة بأتباع الديانات السماوية الذين عاشوا ولا يزالون يعيشون في كنف التسامح والمحبة على أرضها، وفي بقية أرجاء العالم، ومنها فرنسا مثل غيرها من مناطقَ في ربوع العالم تحظى أيضاً برعاية ملكية موصولة، لما تمثله شخصية الملك في المغرب والعالم، من رمزية دينية عابرة للحدود، لا تتعلق بحماية التراث الديني للأقليات في المغرب وإنما في خارجه أيضاً، وذلك في انسجام تام مع تعاليم الإسلام السمحة وقيم الإنسانية المشتركة.
إن هذه الجهود التي يقودها جلالة الملك محمد السادس ليست مجرد مبادرات ظرفية، بل هي استراتيجية ممتدة تهدف إلى بناء عالم أكثر تفهماً وتقبلاً للآخر، لتصبح الدبلوماسية الروحية للمغرب نموذجاً يُحتذى به في عالم يواجه تحديات متزايدة تهدد قيم التعايش والتعددية.
وأخيراً، يمكن القول بأن التسامح بين الأديان يُعدّ من الركائز الأساسية التي أكد عليها ملك المغرب محمد السادس في رؤيته لتعزيز السلام والتعايش. حيث أكد جلالة الملك بأن المغرب كان دائمًا أرضًا للتنوع الثقافي والديني، إذ تعايشت فيه الديانات السماوية بسلام واحترام متبادل وعلى امتداد عدة قرون مضت، وإلى اليوم، ومن النماذج أيضاً، إعادة تأهيل المعابد اليهودية والمقابر والموروث الثقافي اليهودي في المغرب، مثل ترميم كنيس صلاة الفاسيين بفاس. بالإضافة إلى ذلك، تأسيس معهد محمد السادس لتكوين الأئمة والمرشدين والمرشدات، الذي يقوم بتأهيل القادة الدينيين من مختلف الدول لمكافحة التطرف وتعزيز خطاب الاعتدال والوسطية. كما شهد المغرب احتضانًا لفعاليات كثيرة حول التسامح والسلام، مثل المؤتمر الدولي لحوار الأديان، مما يعكس التزام المملكة المغربية بتعزيز القيم الإنسانية .
أوكي..