ترامب وذاكرة مستنقعات الغزوالأمريكي
الأنوال نيوز بقلم : حسن بناجح
تصريح دونالد ترامب الأخير الذي هدد فيه الشرق الأوسط بـ”الجحيم” إذا لم يُطلق سراح أسرى الكيان الإسرائيلي قبل 20 يناير، يعكس الغطرسة الاستعمارية التي لا تزال تتحكم في عقلية الإدارة الأمريكية.
هذه التهديدات تعبر عن جهل عميق بتاريخ المنطقة وشعوبها وقوة مقاومتها، رغم الضلوع الأمريكي في جل حروب المنطقة بما فيها حرب الإبادة الجارية التي لا أدري هل تركت إدارة بايدن لترامب شيئا لم تحرقه .
بل إن التصريح العنتري لترامب مقطوع أيضا عن النظر المتبصر في كل تجارب التحرر في تاريخ الإنسانية التي تؤكد قاعدة لا تقبل الاستثناء وهي أن مقاومة الشعوب لمن يحتل أرضها ليست خيارا بل هي معركة وجودية.
وبجولة خفيفة في التاريخ القريب ندرك أن ترامب ليس أول من اعتقد أن القوة العسكرية يمكن أن تفرض إرادة الولايات المتحدة على الشعوب التي تحدت قوى الاحتلال. ففي عام 1993، تدخلت أمريكا في الصومال تحت مبرر إنساني لإعادة الاستقرار للبلاد إثر المجاعة والحرب الأهلية. ولكن سرعان ما تحولت هذه المهمة إلى مواجهة مباشرة مع المقاومة المحلية في شوارع مقديشو، ما أسفر عن الإسقاط الشهير لمروحيتين أمريكيتين وقتل 18 جنديا أمريكيا. والعالم يذكر الصور الشهيرة لجثث الجنود الأمريكيين وهي تُسحل في شوارع العاصمة الصومالية، والتي كانت كفيلة بكشف حدود القوة العسكرية الأمريكية أمام إرادة شعب عازم على المقاومة. وانتهت المهمة بانسحاب فوري، وأثبتت تلك التجربة أن الجيش الأمريكي لا يمكنه تحقيق النصر المطلق في بلاد الغير، ولا تشكل القوة العسكرية الحارقة وحدها الحل.
ثم جاءت حرب أفغانستان التي بدأت في 2001، بعد هجمات 11 شتنبر، حيث اعتقدت أمريكا أنها ستقضي على طالبان وتنهي وجود تنظيم القاعدة بسرعة. في البداية غلفت أمريكا حرائقها في أفغانستان بشعار الحرب على الإرهاب، ولكن سرعان ما تحول إلى محاولة استعمار فأدخلت نفسها في حرب طويلة ومكلفة جدا.حيث، رغم التفوق العسكري الساحق، عجزت عن إخضاع مقاومة طالبان. وعلى مدى عقدين غرق الأمريكيون في مستنقع أفغاني استنزفهم ماليا وعسكريا. ورغم إنفاق تريليونات الدولارات وتجنيد مئات الآلاف من الجنود فشلت في تحقيق أي استقرار حقيقي في البلاد. وفي النهاية انسحبت القوات الأمريكية في 2021 في مشهد فوضوي مُذل، حيث سقطت العاصمة كابول في يد طالبان خلال أيام قليلة فقط. وكانت مشاهد الأفغان المرتبطين بأمريكا وهم يتعلقون بعجلات الطائرات الأمريكية المغادرة، وصورهم وهم يفرون في كل اتجاه، كانت شاهدة على فشل أمريكا في فهم طبيعة المقاومة الأفغانية، التي كانت تدافع عن أرضها ووجودها بينما كانت أمريكا تقاتل من أجل مصالح تريدها عاجلة آنية وتتوهم القدرة على حسمها من خلال آخر ما وصلت إليه مخازن جحيمها الحربي من قنابل الحرق والتدمير .
العجيب والغريب هو كيف لا تتعظ أمريكا من تجربتها، والحال أن تجربتها في الغطرسة لا تقتصر فقط على الصومال وأفغانستان، بل في فلسطين نفسها وفي لبنان أيضا، حيث نرى أمثلة أخرى على الفشل الأمريكي والغطرسة الإسرائيلية التي استمرت عقودا. فكم مرة شنت فيها حروب تحت عناوين من قاموس جهنم، إلا أن المقاومات في فلسطين ولبنان أظهرت صمودا غير مسبوق، وتكبدت إسرائيل هزائم مدوية رغم التفوق العسكري الهائل والمشاركة العسكرية الأمريكية المباشرة. ورغم التدمير والدماء والمحارق في كل تلك الحروب، فإن المقاومة تنهض مجددا وتواصل دفاعها عن الأرض.
أما في العراق، فقد دخلت أمريكا في حرب كارثية عام 2003 بحجة القضاء على أسلحة الدمار الشامل التي لم تجدها، وبتحالف مع بعض الدول الداعمة للعدوان. لكن بعد عقدين من الاحتلال، انسحبت أمريكا وهي تجر ذيول فشل ذريع، تاركة وراءها فراغا فوضويا في العراق، لكنها في الوقت نفسه كشفت عن القوة الكامنة في إرادة الشعوب التي تقاوم الاحتلال بكل الوسائل.
أما التجربة الأمريكية المريرة في فيتنام، فلا حاجة لي بالتذكير بها لأنها ستظل العنوان الأبرزعلى الفشل المطلق لأي احتلال مهما بلغ طغيانه.
كل هذه التجارب أثبتت أن الغطرسة العسكرية تتحول إلى عبء عندما تواجه مقاومات شعبية محركها الحفاظ على وجودها واستقلالها، فالمقاومة ليست مجرد رد فعل على احتلال أو تدخل خارجي، بل هي حركة وجودية لشعوب لا تقبل الخضوع للهيمنة الأجنبية.
وبهذا فإن ترامب، في تهديداته، يخطئ في التقدير، ويتوهم أن الشعوب التي عايشت الاستعمار لعقود يمكن أن تُرهَب أو تخضع بسهولة لتهديدات كهذه.
إن تهديدات ترامب بالـ”جحيم” لن تؤدي إلا إلى تأكيد عزيمة هذه الشعوب على المقاومة. فكلما زادت تهديدات القوى الكبرى، زادت عزم الشعوب على تحديها.
أوكي..