توفيق بوعشرين :تفاعلاً مع بعض التعليقات على تعزية حسن نصر الله…
_1.png)
الأنوال نيوز
أشكر كل من تفاعل مع بضع كلمات وضعتها على الحائط الأزرق في الفايسبوك حول استشهاد حسن نصر الله وتوقيت اغتياله على يد الإجرام الصهيوني. وللتفاعل أكثر وللتوضيح أقول:
1/ للذين لم يروا في الشهيد حسن نصر الله سوى قائد شيعي يقود حزبًا مواليًا لإيران، أقول: كاتب هذه السطور لا يصدر عن تفكير طائفي أو مذهبي، بل يرى في كل مخلوق جوهره الإنساني وسيرته على الأرض. حتى عندما يختلف معه دينيًا أو سياسيًا أو ثقافيًا هنا وهناك، فإنه ينظر إلى الظرف السياسي، والموقف الاستراتيجي، ونظام ترتيب الأولويات، ولائحة موقع الصديق القريب والصديق البعيد، والحليف المؤكد والحليف المحتمل، والخصم الشريف والخصم الدنيء، والعدو الأول والعدو الأخير، وما بينهما. الحياة ليست أبيض وأسود بل قوس واسع من الألوان والبشر والمواقف والسياسات. وهنا تظهر قيمة الوعي السياسي الذي يمكن المرء من الفهم قبل الحكم، ومن رؤية أعمق من الانتماء الطائفي أو الاحتباس المذهبي.
فهل نفرح، مثلاً، لأن المجرم نتنياهو اغتال شيعيًا كان مناصرًا للقضية الفلسطينية وقدم حياته ثمنا لهذا الموقف في الوقت الذي ينشغل فقهاء النميمة الإلكترونية ببث سموم الفتنة والتعصب المذهبي وهم غير قادرين على التفكير ابعد من لحاهم ومصالحهم وجيوبهم الصغيرة ، هل نصفق للمجرم نتنياهو ، فقط لأن حزب الله اخطأ في التدخل في سوريا لمناصرة الاسد في صراع معقد جدا؟ هذا ما تريده إسرائيل، ويدخل السرور إلى قلبها وقلب من زودها بـ F35! هل سنفرح لأن أمريكا المسيحية اغتالت مناضلاً شيوعيًا أرجنتينيًا اسمه تشي غيفارا في غابات بوليفيا سنة 1969، فقط لأنه شيوعي ونحن على فطرة الإسلام؟
عندما ندين اغتيال نصر الله، فنحن لا نتشيع ولا نبايع الخامنئي، ولا نوافق على كل سياسات الحزب في لبنان والمنطقة. نحن ندين إسرائيل، ولو من باب (عدو عدوي صديقي). ولا صوت اليوم يعلو على صوت إدانة جرائم إسرائيل وإبادتها الجماعية للفلسطينيين. انتبهوا إلى التدين الفاسد الذي ترعاه إسرائيل وحلفاؤها في الشرق والغرب، الذين لا يرون الفرق بين العدل والظلم، وبين القانون الدولي والبربرية الإسرائيلية. كل همهم هو ميزان القوى والى أين يميل، ومصالح النخب الحاكمة واين تستريح ،وحروب الداخل وكيف تدار بالتحالف مع اللوبي اليهودي والصهيوني حول العالم بمعزل عن القيم الإنسانية والقضايا العادلة والدفاع عن الأمن والسلم الدولي المبني على العدل والإنصاف وحق تقرير المصير لأكبر شعب عانى من الاحتلال في العصر الحديث .
2/ آخذني البعض على التناقض في المواقف، معتبرًا أن عزائي في استشهاد نصر الله لا يتوافق مع التحفظ على أداء حزبه في ملفات إقليمية، مثل التدخل لإجهاض الثورة السورية أو رفض تدخل الحزب في ملف الصحراء المغربية خدمة لأجندات جزائرية أو إيرانية. هذا، لعمري، هو (العمى السياسي) الذي يمنع صاحبه من رؤية ما لا يُرى بالعين الغبية.
ينشأ التناقض عندما تتخذ مواقف مختلفة من قضايا مماثلة لا فرق بينها. أما عندما تتخذ موقفًا مغايرًا لأن الواقع تغيرأواختلفت معطياته وتفاصيله، فهذا يُسمى (لكل مقام مقال). ما تعريف التناقض منطقيًا وفلسفيًا؟ التناقض، في المنطق والفلسفة، هو وقوع تعبيرين في قضيتين مماثلتين بحيث لا يمكن أن يكون كلاهما صحيحًا في نفس الوقت وتحت نفس الظروف. يمكن فهم التناقض من خلال القاعدة المنطقية الأساسية المعروفة بمبدأ “عدم التناقض” (Principle of Non-Contradiction)، الذي ينص على أن قضية معينة لا يمكن أن تكون صحيحة وخاطئة في نفس الوقت.
3/ إذا كان القول والنقاش في مجال العلاقات الدولية تمرينًا ذهنيًا وسياسيًا ومنهجيًا مطلوبًا من كل مواطن قادر على خوض بحر تعقيدات المجتمع الدولي وفك أسراره وفهم أبعاده، فإن عدم الإلمام بتاريخ العلاقات الدولية ومناهج دراستها وتشابك القضايا والمصالح داخلها وتعقد ظواهرها… يجعل الخوض في الصراعات الدولية مثل الخوض في سجالات كرة القدم، حيث لا فرق بين مختص وجاهل، وبين متفرج ومدرب، وبين لاعب وجالس على الكنبة في البيت يدلي برأيه في كل مباراة وفي كل لقطة وله ألف تشكيلة وخطة، وهو لم يلمس الكرة في حياته.
كان الحسن الثاني، من فرط اقتناعه بتعقيد مجال العلاقات الدولية، يعتبرها فنًا وليس علمًا. فمرة كان في زيارة إلى فرنسا، والتقى بطلبة مغاربة يتابعون دراستهم في الجامعات الفرنسية. فسأل الملك أحدهم: ماذا تدرس هنا في فرنسا يا ولدي؟ فرد الطالب: أدرس العلاقات الدولية يا مولاي. فاستغرب الحسن الثاني وقال له بفهمه التقليدي: وهل العلاقات الدولية علم يدرس في الجامعات؟ إنه فن يا ولدي، تكتسبه أو لا تكتسبه بالتجربة والخبرة في الميدان. ابحث لنفسك عن علم آخر ينفعك.
الخلاصة المؤقتة:
الصراعات الدولية لا تُرى بالعين غير المدربة، ولا تُدرك بالعقول الصغيرة التي ترى الأمور بمنظار الأسود أو الأبيض. ولا تُفكك بمعزل عن تاريخ العلاقات الدولية ومدارسها، والقانون الدولي وتطوره، والسوسيولوجيا ومقتراباتها، والاستراتيجيا واتجاهاتها، والعلوم العسكرية وأسرارها، والجغرافيا السياسية وتعقيداتها، والاقتصاد وتقاطعات مصالح محركيه…. القول في السياسة الدولية ليس كالتعليق على مباراة كرة القدم التي تسمى “الساحرة” لأنها تسحر روادها وتفتح المجال للمشاركة في اللعبة بلا قيد أو شرط. العلاقات الدولية لا سحر فيها ،كلها واقعية وتعقيدا وتشابكا، وأسرارها أكثر من معلومها. لهذا من الأفضل أن يجلس المرء في صفوف ومقاعد مدرستها، لا أن يتسرع للوقوف في منصات المحاضرين فيها. ولكل رأيه ولكل اختياره.
أوكي..