الشيخ الكتاني يرد بتفصيل على دعوى وزير العدل بـ"إلزام الزاني بالنفقة على مولوده من الزنا إلى أن يبلغ سن 21 سنة "
الأنوال نيوز-متابعة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه.
أما بعد، فقد اطلعت على رد كتبه دكتور معروف، وقيادي في حركة إسلامية، يرد على ما نشرته من رد على مشروع قانون صرح به وزير العدل، مفاده إلزام الزاني بالنفقة على مولوده من الزنا إلى أن يبلغ سن 21 من عمره. فرددت على الوزير بمشهور المذهب المالكي، وما عليه جماهير أئمة الإسلام من جميع المذاهب المتبوعة. وخاصة وأنا أعلم أن هناك خطة خطيرة للإجهاز على البقية الباقية من الشريعة الإسلامية في القوانين المغربية، وجعلها كلها قوانين علمانية لا علاقة لها بالدين.
ويا ليت صاحب الرد طبق مقاصد الشريعة التي ينادي بها ليل نهار، ومنها النظر لمقصد من أراد سن هذا القانون. ولكنه جعل قولي، والذي هو قول جماهير الأئمة، والمفتي به في جميع المذاهب، قولا شاذا مرغوبا عنه، ثم عمد لقول آخر فهمه على غير وجهه، فجعله كأنه الحق الحقيق بالاتباع.
أما مقدمته التي قدم بها في تقرير أن الزنى من الكبائر فهذا من بدهيات الإسلام.
ثم عقد فصلا للحديث عن نسب ابن الزنا، فاستنكر علي عدم إيرادي للقول الآخر، وأن هذا ليس من أمانة العلم.
وأنا أرد على قوله بأنه ليس من الحكمة في معركة من المعارك الخطيرة إيراد قول قد يكون للخصم فيه ممسك، ولو بالشبهات. فهذا من المقاصد العظيمة في الرد على الباطل وأهله.
ثم دعونا ننظر في المسألة وصورتها:
فالمسألة ليست في استلحاق ابن الزنى، بل في إلزامه بالنفقة إلى سن 21 لمولوده من الزنى.
أما مسألة الاستلحاق فقد ذهب جمهور أهل العلم إلى أن ولد الزنا لا يلحق بأبيه ولا ينسب إليه، لأدلة منها ما ورد في الصحيحين من قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الولد للفراش وللعاهر الحجر) ومنها ما ورد في قضائه صلى الله عليه وسلم في استلحاق ولد الزنا من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: “أن كل مستلحق استلحق بعد أبيه الذي يدعى له ادعاه ورثته فقضى أن كل من كان من أمة يملكها يوم أصابها فقد لحق بمن استلحقه وليس له مما قسم قبله من الميراث شيء وما أدرك من ميراث لم يقسم فله نصيبه، ولا يلحق إذا كان أبوه الذي يدعى له أنكره، وإن كان من أمة لم يملكها أو من حرة عاهر بها فإنه لا يلحق به ولا يرث وإن كان الذي يدعى له هو ادعاه فهو ولد زنية من حرة كان أو أمة”. رواه أحمد (6699) وأبو داود (2265) وابن ماجه (2746) والدارمي (3154) بسند حسن.
“فلا يلحق الزاني نسب الولد عند الجمهور من المذاهب الثمانية وإنْ ادّعاه الزاني؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "الولد للفراش وللعاهر الحجر"، أي إن الزاني لا يستحقّ إلاّ الحدّ، ولا يلحق به ولده؛ ولأن إلحاق الولد بالزاني إعانةٌ له على الزنا، ونحن مطالبون بسدّ الذرائع؛ صيانةً للأنساب [موسوعة الفقه الإسلامي والقضايا المعاصرة 13: 607].
والمذاهب الثمانية هي: الزيدية والجعفرية والحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية والظاهرية والإباضية.
قال الحافظ ابن عبد البر- رحمه الله تعالى-: (فلما جاء الإسلام أبطل به رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حكم الزنا لتحريم الله إياه، وقال: "وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ" فَنَفَى أن يلحق في الإسلام ولد الزنا، وأجمعت الأمة على ذلك نقلاً عن نبيها صلى الله عليه وسلم، وجعل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كل ولد يولد على فراش لرجل لاحقاً به على كل حال، إلى أن ينفيه بِلِعَانٍ عَلَى حُكْمِ اللِّعَانِ … وأجمعت الجماعة من العلماء أن الحرة فراش بالعقد عليها مع إمكان الوطء وإمكان الحمل، فإذا كان عقد النكاح يمكن معه الوطء والحمل فالولد لصاحب الفراش، لا ينتفي عنه أبداً بدعوى غيره، ولا بوجه من الوجوه إلا باللعان). [التمهيد: 8/183].
وقد استدل أصحاب هذا القول بالأدلة التالية:
الدليل الأول: عن عائشة- رضي الله عنها قالت: اخْتَصَمَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ فِي غُلاَمٍ، فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، هذا ابْنُ أَخِي عُتْبَةُ بْنُ أَبِى وَقَّاصٍ عَهِدَ إِلَيَّ فِيهِ أَنَّهُ ابْنُهُ انْظُرْ إِلَى شَبَهِهِ، وَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ: هَذَا أَخِي يَا رَسُولَ اللهِ، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِي مِنْ وَلِيدَتِهِ، فَنَظَرَ النَّبِيُّ، عليه السَّلام، إِلَى شَبَهِهِ فَرَأَى شَبَهاً بَيِّناً بِعُتْبَةَ، فَقَالَ: «هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ، الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ، وَاحْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ بِنْتَ زَمْعَةَ، فَلَمْ تَرَهُ سَوْدَةُ قَطُّ». أخرجه البخاري: ح 2281، ومسلم: ح 1457.
قال أبو بكر الجصاص- رحمه الله تعالى-: قوله "الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ" قد اقتضى معنيين: أحدهما إثبات النسب لصاحب الفراش، والثاني: أن من لا فراش له فلا نسب له، لأن قوله: الولد اسم للجنس، وكذلك قوله: الفراش للجنس، لدخول الألف واللام عليه، فلم يبق ولد إلا وهو مراد بهذا الخبر، فكأنه قال: لا ولد إلا للفراش، ولأنه لو لم يكن النسب مقصوراً على الفراش وما هو في حكم الفراش لما كان صاحب الفراش أولى بالنسب من الزاني، وكان ذلك يؤدي إلى إبطال الأنساب وإسقاط ما يتعلق بها من الحقوق والحرمات. [ أحكام القرآن: 5/24، 5/160].
وقال الكاساني- رحمه الله تعالى-: إن النبي- عليه الصلاة والسلام أخرج الكلام مخرج القسمة فجعل الولد لصاحب الفراش والحجر للزاني، فاقتضى أن لا يكون الولد لمن لا فراش له، كما لا يكون الحجر لمن لا زناً منه، إذ القسمة تنفي الشركة. [بدائع الصنائع: 6/242].
وقال ابن حزم الظاهري : " نفى صلى الله عليه وسلم أولاد الزنى جملة بقوله عليه الصلاة والسلام ” وللعاهر الحجر " ، فالعاهر – أي الزاني – عليه الحد فلا يلحق به الولد ، والولد يلحق بالمرأة إذا أتت به ، ولا يلحق بالرجل ، ويرث أمه وترثه ، لأنه عليه الصلاة والسلام ألحق الولد بالمرأة في اللعان ونفاه عن الرجل ” [ “المحلى” (10/322)].
وقد نص الفقهاء على أن علة قطع نسب الزاني هي حسم باب الزنا، وأن استلحاقه تشجيع على ذلك، وأن الحدود الشرعية هي الكفيلة بردع الزناة.[ ينظر: المبسوط للسرخسي: 4/207].
واعلم بارك الله فيك أن ما أورده هذا الدكتور علي لا يرد أصلا من جميع الوجوه، لأن الصورة التي ذكرها الفقهاء غير الصورة التي استنكرتها، فإن المسألة الخلافية هي: هل يلحق ابن الزنا والده إذا استلحقه؟ أي أنه إذا لم يستلحقه فقد وقع الإجماع على أنه لا يلحقه. فقد نص الفقهاء على أن من شروط استلحاق ابن الزنا عند من يقول بذلك أن يستلحق الزاني ولده من الزنى. فإن لم يستلحقه، فإنه لايلحق به, ويفهم هذا الشرط من كلام الفقهاء الذين قالوا بالاستلحاق ؛ فإنهم ينصون على أنه لابد أن يستلحقه الزاني؛ لأن الظاهر أن الشخص لا يلحق به من ليس منه, كما لو أقر بمال، ولأنه إذا لم يستلحقه، فيحتمل أن يكون ناتجا من ماء غيره، فلا يلزم الزاني إلحاقه به، خاصة وأن المرأة إذا تجرأت على الزنى مع رجل, فلا يبعد أن تتجرأ على الزنى مع غيره.
قال الحافظ ابن عبد البر: " البيان من الله عز وجل على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في أن العاهر لا يلحق به في الإسلام ولد يدعيه من الزنا ، وأن الولد للفراش على كل حال ، والفراش : النكاح ، أو ملك اليمين لا غير .
أجمع العلماء – لا خلاف بينهم فيما علمته – أنه لا يلحق بأحد ولد يستلحقه إلا من نكاح أو ملك يمين ، فإذا كان نكاح أو ملك فالولد للفراش على كل حال ". [“الاستذكار” (2/167)].
قال القاضي أبو يوسف، صاحب الإمام أبي حنيفة، رحمهما الله، في "الرد على سير الأوزاعي" (ص: 51) : " وَقَدْ بَلَغَنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ رَجَمَ غَيْرَ وَاحِدٍ وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهَ عَنْهُمَا وَالسَّلَفِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ أَقَامُوا الْحُدُودَّ عَلَى الزُّنَاةِ ، وَلَمْ يَبْلُغْنَا عَنْ أَحَدٍ مَنْهُمْ أَنَّهُ قَضَى مَعَ ذَلِكَ بِمَهْرٍ ، وَلَا أَثْبَتَ مِنْهُ نَسَبَ الْوَلَدِ".
ثم ذكر من قال باستلحاق أبناء الزنا من علماء المسلمين. وهي المسألة التي اتهمني بترك الأمانة العلمية إذ لم أذكرها.
وجوابي من وجوه:
الأول: أنني عن عمد تركها، مع علمي بها، لكونها قولا ضعيفا مقابل أقوال جماهير أئمة الإسلام، جيلا بعد جيل، وعليها الفتيا والقضاء، والعلماء لا يميلون للقول الضعيف إلا لأسباب مذكورة في كتب الاصول.
الثاني: أنها أقوال في غير مورد النزاع أصلا، فسقط الاستدلال بها. إذ هي تتحدث عن حكم من استلحق ولدا له من زنا، ولا تتحدث عن إلحاق السلطان أبناء الزنا بمن لم يدعهم أصلا!!
ثالثا: أن في ثبوت بعضها ترددا، كما أن في كونه في موطن النزاع تردد أيضا.
فأما عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد روي أنه ألحق أولادا ولدوا في الجاهلية بآبائهم .
فروى مالك في ” الموطأ ” (1451) عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ: ” أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يُلِيطُ أَوْلَادَ الْجَاهِلِيَّةِ بِمَنْ ادَّعَاهُمْ فِي الْإِسْلَامِ .
وفي سنده انقطاع فسليمان بن يسار لم يدرك عمر رضي الله عنه .
قال ابن عبد البر في “الاستذكار” (7/164): ” إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه يليط أولاد الجاهلية بمن استلاطهم ويلحقهم بمن استلحقهم إذا لم يكن هناك فراش؛ لان أكثر أهل الجاهلية كانوا كذلك. وأما اليوم في الإسلام بعد أن أحكم الله شريعته وأكمل دينه ، فلا يلحق ولد من زنا بمدعيه أبدا عند أحد من العلماء كان هناك فراش أولم يكن”.
وتأمل كيف لم يعتبر حافظ المغرب هذا الخلاف أصلا ولم يلتفت إليه.
وقال القاضي ابن العربي في “المسالك في شرح موطأ مالك” (6/383) : ” قال علماؤنا: كان أولئك أولاد لزَنْيَةٍ [ أي الذين ألحقهم عمر بآبائهم ] ، وكذلك السُّنَّةُ اليومَ فيمن أسلمَ من النَّصَارى واليهود، ثمّ ادَّعَى ولدًا كان من زنا في حال نصرانيَّتِه، أنّه يُلحَق به إذا كان مجذوذَ النَّسَبِ ، لا أَبَ لهَ ولا فِرّاشَ فيه “.
أما أثر الإمام علي كرم الله وجهه فقد روى أبو داود (2271) من حديثِ عبدا لله بن الخليل، عن زيد بن أرقم، قال: “كنتُ جالسًا عند النبي صلَّى الله عليه وسلَّم فجاء رجلٌ من أهلِ اليمن، فقال: إنَّ ثلاثةَ نفر من أهلِ اليمن أتَوا عليًّا يختصمون إليه في ولدٍ، فقرع عليٌّ بينهما، فقرع لأحدِهما الولد وعليه لصاحبِه ثلثا الدية، فضحك رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم حتى بدتْ أضراسُه ونواجذُه”.
فهذا الأثر رجاله ثقات، لكنه مرسل. ولو سلمنا بصحته، كما قد حكم عليه بعض العلماء فهو لا يتحدث عن زنا صريح، وإلا لأقام الإمام الحد على من اعترف بالزنا. ولكنه قد يكون نكاح شبهة في الجاهلية، وقد يكون ملك يمين حدث فيه شبهة.
وتبقى نصوص بقية العلماء محتملة.
ثم إن هذا الموضوع كله خارج عن موضوع البحث، والذي هو إلزام الزاني بالنفقة على مولوده، دون استلحاقه أصلا، ولا تهيئ بيت يتربى فيه. فلو أنهم سنوا قانونا يستلحقه ويستتبع ذلك النفقة عليه لكان أقرب.
وهنا مسائل هامة:
1. أن العلمانيين لا يبحثون عن قانون يمنع الزنا أصلا، ولكنهم يبحثون عن زنا لا ينتج عنه أولاد يرهقون كاهل الدولة. فالقول بأن القانون سيمنع الزنا أو يضيقه غير مطروح أصلا، ولكنهم يسعون من خلاله لتضييق نتائج الزنا. أما الزنا فلا يحل إشكاله إلا الأحكام الشرعية، مع تعزيز الخوف من الله تعالى ومراقبته.
2. أن إثبات كون فلان زنى بفلانة بمجرد دعواها هو في الشريعة الإسلامية قذف صريح لا برهان شرعيا عليه، يعاقب الشارع عليه بجلد القاذف ثمانين جلدة. والزنا لا يثبت إلا بالإقرار أو شهادة شهود أربعة ثقات لا اتفاق بينهم. فكيف سيثبتون أن فلانا زنا بفلانة كي يلزموه بالنفقة على المولود؟
3. أن كثيرا من الناس يهملون النفقة على أبنائهم الشرعيين، وقد يدخلون السجن لأجل النفقة، ويرضون بذلك، فمن هذا الذي سيقبل بالنفقة على ولد لا يعده ولده أصلا.
4. أن هذا القانون مع اتساع رقعة الزنا لن يطبق أصلا، لصعوبة ذلك، وكون البلاء عم الجميع إلا من رحم الله. وقليل ما هم.
5. أن الزنا كارثة عظيمة أضاعت شبابنا والمفروض البحث عن حلول شرعية لحسمها، لا لاختراع قوانين لا أصل لها لن تزيد الأمر إلا شدة.
هذا ما ظهر لي والله أعلم، والحمد لله رب العالمين.
كتبه الحسن بن علي بن محمد النتصر الكتاني
الرباط في 14 ربيع الآخر سنة 1444 هـ.
أوكي..