المغرب الرائد والمتميز والثابت من القضية الفلسطينية
عضو الرابطة العالمية لخريجي الأزهر- عضو المجلس الصوفي الأعلى فلسطين
بسم الله الرحمن الرحيم
"مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا "
المملكة المغربية الشريفة في ظل رعاية ولاية أمارات المؤمنين الرشيدة وتاريخها الخالد ودورها الرائد المتميز تجاه القضية الفلسطينية .
إن مواقف الرجال الخالدة تسجلها الشعوب وتتناقلها الأجيال جيل بعد جيل، وإن شكر النعمة واجب والاعتراف بالجميل لأهله فضيلة، وإن الأياد البيضاء لمولانا أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس نصره الله امتدت من المملكة المغربية الشريفة إلى فلسطين تطوّق أعناقنا وتضمّد جراحنا وتجمع على الحق كلمتنا.
ولا يخفى لكل دارس للحضارة وتاريخ الأمم والشعوب أن المملكة المغربية كيان عريق أصيل ذو حضارة وإنسانية تضرب جذورها في أعماق التاريخ منذ فجر القدم، زاخرة بمعاني الإنسانية والبناء، والعلم والثقافة، والبطولة وإبداع الفكر الإنساني، ممثلةً في جامعاتها ومدارسها ومعاهدها وزواياها العلمية والصوفية وبنيانها الشاهق وعلمائها الأولياء الصالحين الذين نشروا العلم والمعرفة والتربية والسلوك في المشرق والمغرب، وجامعاتها العريقة التي كانت ولم تكن في العالم معها جامعة، وإنسانيتها الراقية تجاه الإنسانية جمعاء وقضايا الأمة العربية والإسلامية خاصة.
وأهمها القضية العربية والإنسانية في تاريخنا المعاصر قضية فلسطين العادلة، وإذا ما أمعنا النظر والفكر في دور المملكة المغربية لدعم هذه القضية لا بدّ من الحديث عنه وخاصة في هذه الأيام بالذات والتي تتقاذف الفتن على أمتنا العربية والإسلامية من كل حدَبٍ وصوب، ببث الفتن والشائعات الباطلة والمغرضة من أناس لا يعرفون لذوي الفضل فضلهم، أو أنهم يتعمدون إخفاء الحقائق والفضائل عن سوء نية وطوية، أو كمن يريدون أن يثيروا التراب ليمنعوا شعاع الشمس عن ضيائها، ولكن أنّا لهم هذا، فنقول لهم أشفقوا على أنفسكم فإن الغبار الذي تثيرونه لمنع شعاع الشمس مردوده على أعينكم فتصاب بالرمد والعمى.
لذلك فليعلم المنصفين وغيرهم بأن علاقة المغرب بفلسطين على المستوى الرسمي والشعبي ناهيك عن استمرارية هذه الروابط، مواكبة للوضع السياسي والوضع الإنساني والأمني ارتباط التاريخ والدم، هذا هو الدور المغربي الرائد والمتميز والثابت مدى الأيام والتاريخ إلى قيام الساعة.
فقد ارتبط تاريخ المغاربة بالقدس الشريف منذ الفتح الإسلامي، حين أكرم الله المدينة المقدسة المسجد الأقصى المبارك فيها أن جعله أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين الشريفين، فقد جعل الله المسجد الأقصى في القدس الشريف ما يقارب العام والنصف قبلة للمسلمين قبل تحويل القبلة إلى الكعبة المشرفة، واختارها الله عزّ وجلّ لإسراء ومعراج نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم وهو القائل: "لا تشد الرحال إلا لثلاثة مساجد، المسجد الحرام والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا"
وقوله عليه الصلاة والسلام: (من أهلَّ بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر)، وأحاديث تترى يحثنا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم على زيارة المسجد الأقصى وإعماره والعناية به والذود عنه.
ولذلك نجد أن السادة المغاربة قد عرفوا للمسجد الأقصى قدره ومكانته، فكان لزاماً على وفود الحجيج زيارة المسجد الأقصى من كل بقاع المعمورة، وقد كانت القدس في حينها مركزاً دينياً هاماً استقطب إليه الحجاج المغاربة والوافدين إلى أرض الحجاز من أجل الحج وتوافد الزائرين والعابدين من الديار المغربية، وأسهم أبناء المغرب في الأحداث التي جرت على أرض فلسطين، واختلطت دماؤهم بدماء أبنائها صيانة لعروبتها وتأكيداً لإسلامها.
ففي عهد دولة المرابطين حل بالقدس الشريف الكثير من العلماء والشيوخ نذكر منهم القاضي أبو بكر بن العربي، والشيخ صالح بن حرزهم، والقاضي بدر الدين بن سعيد، ومحمد بن سالم العزي، والشيخ صالح بن حرزهم، والقاضي بدر الدين بن سعيد، ومحمد بن سالم العزي، والرحالة المغربي الشهير ابن بطوطة، وأبو الحسن الواسطي، وابن العربي، وأبو عبد الله بن سالم الكناني، وشمس الدين الخولاني، ومحمد بن نباته، والمقرِّي صاحب "نفح الطيب" وغيرهم كثير مما لا نستطيع حصرهم ولو حاولنا.
وتجلى اهتمام المغاربة بالقدس والمسجد الأقصى في انخراطهم بالحروب الإسلامية ضد الصليبين ابتداء من أواخر القرن الحادي عشر حيث تأتى للصليبين السيطرة على أجزاء كبيرة من فلسطين والأردن وسوريا ولبنان والقدس، وكانت تلك المرحلة من أشد المراحل الإسلامية ضعفاً وانحطاطاً وتفككاً، وأسهم المغاربة في دعم وترسيخ دور القائد المسلم صلاح الدين الأيوبي الذي وافق حكم أبي يوسف يعقوب المنصور على بلاد المغرب، وكانت الدولة المغربية في زمن الموحدين تمتلك أسطولاً بحرياً كبيراً، في الوقت الذي كانت فيه الدول الصليبية تحتل سواحل الشام وبيت المقدس وتتصدى لأسطول صلاح الدين، وقد استنجد مؤسس الدولة الأيوبية بيعقوب المنصور لإعانته بوحدات بحرية ليتمكن من إضعاف الإمدادات العسكرية واللوجستية التي كانت تصل إلى الصليبين من أوروبا، فجهز يعقوب المنصور أسطولاً قوامه مائة وثلاثون مركباًفيه عشرون ألف جندياً بكامل سلاحهم وعداتهم،مما كان له أثر بالغ في وقف الزحف الصليبي على الشام حسب رواية ابن خلدون، ففي سنة 1187 تقدمت الجيوش الإسلامية نحو القدس لتحريرها من سيطرة الصليبين وكان رأس هذه الجيوش هو القائد المسلم صلاح الدين الأيوبي الذي عمل على توحيد بلاد الشام ومصر واستعاد كافة المناطق المحتلة من أيدي الصليبين وبقيت القدس، ولما وقع المسجد الأقصى تحت الأسر الصليبي مرة ثانية، كان في بيت المقدس شاب مأسور من أهل دمشق كتب أبيات شعر وأرسل بها إلى القائد صلاح الدين على لسان المسجد الأقصى قال فيها:
يا أيها الملك الذي |
|
لمعالم الطغيان نكس |
فلما وصلته الرسالة صار كالوالدة الثكلى، يجول بفرسه من طلب إلى طلب، ويحث الناس على الجهاد، ويطوف بنفسه وينادي "يا للإسلام" وعيناه تذرفان بالدموع، وكان من كلامه رحمه الله: "كيف يطيب لي الفرح والطعام ولذة المنام وبيت المقدس بأيدي الصليبين؟"!.
وبهذه الأبيات والرسالة كانت بداية فتح بيت المقدس كما جاء في كتاب الأنس الجليل لمجير الدين الحنبلي، وأقسم ليحررن القدس والمسجد الأقصى بحد السيف وفعل، وأمر بترميم المحراب العمري القديم، وحمل منبراً من حلب كان الملك نور الدين محمود بن زنكي قد أمر بصنعه ليوضع في المسجد الأقصى متى فُتح بيت المقدس، فأمر صلاح الدين بحمله من حلب ونُصب بالمسجد الأقصى، وأزيل ما هناك من آثار مسيحية منها الصليب الذي رفعه الإفرنج على قبة المسجد، وغُسلت الصخرة المقدسة بعدة أحمال ماء ورد وبُخّرت وفُرشت ورُتّب في المسجد من يقوم بوظائفه.
ولم أتطرق لهذا الموضوع عبثاً فلقد كان المغاربة على رأس المجاهدين في معركة القدس وبعد أن انتهت الحرب وتم تحرير القدس واستقرت أوضاع المسلمين، قرر المغاربة – وكانوا يمثلون ما يناهز ربع جيش المسلمين في تلك المعركة – أن يبقوا مرابطين في المسجد الأقصى وأكناف المسجد الأقصى بعد أن غيرهم صلاح الدين أن يبقوا أو يعودوا إلى بلادهم فآثروا البقاء دفاعاً عن المسجد الأقصى والقدس الشريف، واختار لهم صلاح الدين – برأيه – أفضل مكان في القدس، وهو الجهة الغربية من المسجد الأقصى مكان له استراتيجيته الحربية في مواجهة أي عدوان على المسجد الأقصى، وبنى لهم بنايات بحجم مدينة صغيرة ليستقروا فيها، وصُدِم البقية من رعيته واستفسروا، وقد تعجبوا لاهتمام صلاح الدين بالمغاربة وتمسكه بهم وسروه ببقائهم، في حين أن سمح للمشارقة بالرجوع لأوطانهم فأجابهم بمقولته المعروفة: "أسكنت هناك في مكمن الخطر على القدس حيث الأرض اللينة، أسكنت فيها قوما يبثون في البر ويفتكون في البحر.. أسكنت من أستأمنهم على بيت الله.. أسكنت المغاربة وهؤلاء لا نغترق من خلالهم"
إنهم المغاربة، ومن هنا بدأت العلاقة واستمرت ولم تنته، فعندما نتحدث عن الدعم المغربي لفلسطين نتحدث الدماء التي سالت زكية دفاعاً عن القدس والأقصى.
وفي العصر الحديث وبعد أن تفككت الدولة العثمانية وبدأت المؤامرات تحاك ضد الدول العربية من أجل تقسيمها وإضعافها بعد الحربين العالمتين واتفاقيات سايكس بيكو ووعد بلفور المشئوم، أصبحت فلسطين تحت الانتداب البريطاني، الذي بدوره أهداها للصهاينة لإنشاء ما يسمى دولة إسرائيل، وبقيت القدس تخضع للحماية الأردنية حتى عام 1967، عندما تم الاستيلاء على المدينة المقدسة من قبل الصهاينة في ظرف أقل ما يقال عنه غفلة ومؤامرة شيطانية.
وقد كان المغرب وما زال سباقاً ومواكباً لكل التطورات والمستجدات للقضية الفلسطينية وعلى كل الأصعدة دولية كانت أو محلية ولم يذخر جهداً على المستويين السياسي والشعبي لدعم ونصرة فلسطين.
في 29 نوفمبر 1947 صدر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة قرار التقسيم رقم 181 والذي بموجبه تقسَم فلسطين لدولتين عربية ويهودية، في حين تخضع القدس لحكم دولي خاص، وكانت ردة الفعل على هذا القرار قوية ومدوية في كافة الدول العربية وفي المغرب على وجه الخصوص.
ورغم كون المغرب ما زال تحت الحماية آنذاك إلا أن الأحزاب المغربية المعارضة للحماية أخذت على عاتقها العمل من أجل النهوض بالوطن ودعم خطاب السلطان محمد الخامس في أبريل 1947 المطالب برفع الحماية عن المغرب ومنحه استقلاله، إلا أن القدس كان لها النصيب والحظ الوافر في قلوب المغاربة، وتمثل ذلك في البرقية التي أرسلها المجلس الأعلى لحزب الاستقلال والذي كان يتزعمه علال الفاسي وجاء في البرقية المرسلة إلى الأمين العام لهيئة الأمم المتحدة (أن حزب الاستقلال وهو المعبر عن الرأي العام المغربي يحتج بشدة ضد هذه السياسة الصهيونية التي ليست إلا نوعاً من الاستعمار المنبوذ في الضمير الدولي، وسبباً في إثارة القلاقل المؤدية إلى تهديد السلام العالمي...) وهنا نجد أن الوعي الحزبي والشعبي والرأي العام المغربي في ذلك الوقت كان طليعياً بامتياز خاصة وأنه تم إرسال رسالة احتجاج أخرى إلى الأمين العام لجامعة الدول العربية في ذلك الوقت للحث على مساعدة الشعب الفلسطيني ودعمه بكل الوسائل لكي يتسنى له الدفاع عن القدس الشريف ولا ننسى الدعم المادي الذي قام بجمعه حزب الاستقلال عن طريق حملة تبرعات أسهم فيها المغاربة وتبرعوا بكل غال ونفيس من أجل دعم الفلسطينيين حتى أن النساء تبرعن بما يمتلكن من ذهبهن ومصاغهن، وكما أسلفت أن تعدوا نعمة الله لن تحصوها.
كما ولا ننسى أن تسارع الأحداث وهزيمة العرب وظهور ما يسمى الكيان الصهيوني مباشرة سنة 1948 كل هذه الأحداث وما تلاها من ويلات كانت تجد الصدى الجميل في نفوس المغاربة، حتى عندما كان الاستعمار الفرنسي يسيطر على المغرب وقف المغاربة مع فلسطين قيادة وشعباً.
وفي عام 1948 مني العرب بهزيمة أكبر جعلت الشعوب العربية وعلى رأسهم المغرب ممثلاً بجلالة الملك المغفور له محمد الخامس طيب الله ثراه فقد أرسل رئيس الوزراء المغربي في ذلك الوقت السيد محمد المقري برقية تضامن باسم السلطان محمد الخامس للملوك والرؤساء العرب أعلن فيها وقوف المغرب مع أشقائه العرب.
ومع توالي الأحداث والنكبات وما حل بفلسطين وشعبها ونزوح أعداد كبيرة ولجوئهم لدول الجوار فإن الشعب المغربي وبكل أطيافه الاجتماعية والحزبية والسياسية اتخذ من القضية الفلسطينية قضية وطنية، فقد قام جلالة المغفور له الملك محمد الخامس بزيارة للقدس ولمخيمات اللاجئين الفلسطينيين وأعرب عن دعم بلاده المادي والمعنوي لفلسطين وكان لهذا النهج الأثر الطيب في نفوس الفلسطينيين وقد عملت الأحزاب السياسية المغربية على تبني القضية الفلسطينية ودعم نضال الشعب الفلسطيني في كل المحافل السياسية المحلية والدولية، وقد أصبح للقيادة الفلسطينية الفتية أخوّة في النضال والكفاح ومرجع استشاري هام حيث اعتُبر المرحوم علال الفاسي أباً روحياً ومعلماً ومرشداً لقيادات الثورة الفلسطينية.
وقد كان لجلالة الملك الحسن الثاني رحمه الله الدور الفاعل في دعم نضال الشعب الفلسطيني وكان يعتبر رحمه الله من أحد أبرز القادة المحنكين وأصحاب الرأي والمشورة في زمنه وما أن تضيق بالفلسطينيين ضائقة إلا وكان جلالته رحمه الله يبادر إلى العمل الدءوب على حلها وكم وجدنا كماً هائلاً من الأحداث والمعطيات التي لا بد من التطرق لها لما تمثله من مساهمات كان لها الدور الكبير والفعال للقضية الفلسطينية.
ولعل القمة العربية التي عقدت في الدار البيضاء سنة 1965 جسدت منحىً جديداً في دعم فلسطين وقد عقدت هذه القمة بطلب وجهود جلالة المغفور له الملك الحسن الثاني والذي أصر على حضور منظمة التحرير الوطني الفلسطيني حيث شاركت لأول مرة وكان من أبرز ما نتج عنهاإقرار الخطة العربية الموحدة للدفاع عن قضية فلسطين في الأمم المتحدة والمحافل الدولية، وأيدت المغرب دعم الثورة الفلسطينية وإمدادها بالمال والسلاح لتكون قادرة على الدفاع عن الشعب الفلسطيني ودعم صموده في وجه الاحتلال.
وكان عام 1967 حافلاً بالأحداث ومُني العرب بهزيمة أخرى فكان عام النكسة بامتياز وفقدت القدس.
وقف المغرب مع إخوانه العرب في الحرب وأسهم فيها بالرجال والعتاد، وفُقد الشهداء في سبيل فلسطين، وكان جلالة الحسن الثاني رحمه الله من أكثر الزعماء العرب تفاعلاً مع الأحداث، إذ بذل الجهود من أجل دعم القيادة الفلسطينية في دفاعها عن حقوق شعبها.
وإبان الحرب سجل التاريخ للمغرب ولملكه الحسن الثاني طيب الله ثراه موقفه الشجاع بأن أصدر الديوان الملكي أوامره بوضع كافة الوحدات المغربية العسكرية تحت تصرف الإخوة في مصر، فالمغرب لم يقف متفرجاً بل بذل المال والرجال من أجل فلسطين والقدس.
وتتوالى الأحداث ففي شهر يونيو 1967، صادر الكيان الصهيوني حي المغاربة، وفي اليوم العاشر من الشهر نفسه قامت قوات الاحتلال بإخلاء سكانه لتُسويه بالأرض ولتقيم مكانه ساحة عموميةً تكون قبالة حائط البراق، وخلال بضعة أيام، أتت جرافات العدو على 138، بناية كما هدمت جامع البراق وجامع المغاربة، وما لبث أن لحق المصير نفسه بالمدرسة الأفضلية، والزاوية الفخرية، ومقام الشيخ.. في أيام معدودة زالت من خارطة القدس ثمانية قرون من تعلُّق المغاربة بتلك الديار، ولئن أزيلت البنايات وهدمت فوق أجساد الشهداء الذين رفضوا التخلي عن بيوتهم، فإن التعلُّق بالقدس لم ولن يزول في وجدان أهل المغرب.
وبعد الهزيمة في 1967 عمل الملك الراحل الحسن الثاني رحمه الله على الإكثار من الاتصالات مع القيادة الفلسطينية من أجل التعرف على مواقفها وطريقتها في إدارة الصراع مع العدو الصهيوني وكذلك توثيق العلاقات مع منظمة التحرير الفلسطينية.
في 21 أغسطس / آب من عام 1969 أضرم يهودي صهيوني أسترالي يدعى "مايكل دينس روهن" النار في المسجد الأقصى، لتلتهم النيران كامل محتويات الجزء الشرقي من الجامع القبلي، بما في ذلك منبر صلاح الدين التاريخي الذي يبلغ عمره أكثر من ثمانمائة سنة، وقد كان هذا العمل وغيره من الاعتداءات الصهيونية المتكررة على الأماكن الإسلامية المقدسة حافزاً قوياً للقيادة المغربية – التي لم تنس هدم الحي المغربي في القدس – لكي تعمل وبكل الوسائل على الحد من النفوذ الصهيوني.
وقد أرسل الملك الحسن الثاني رحمه الله برقية إلى الأمين العام للأمم المتحدة وطلب منه اتخاذ التدابير اللازمة حسب مواثيق الأمم المتحدة، كما رد على رسالة بابا الفاتيكان الذي شجب ما قام به الصهاينة، ودعا لإشراف ديني على الأماكن المقدسة، ولكن كان لجلالته رأي آخر وهو إنشاء منظمة المؤتمر الإسلامي، فظهرت للوجود بعد القمة الإسلامية التاريخية في الرباط بتاريخ 25 أيلول 1969 حيث كانت القمة الأولى، وكان المغرب من دعا واستضاف وعمل بجهد كبير، حيث كان تعداد المسلمون في ذلك الوقت يربو على 800 مليون، وكان لا بد للجميع أن يتحمل المسؤولية، وهذا يدل على وعي الملك الحسن الثاني تغمده الله بواسع رحمته بأن هذه الحرب هي حرب دينية لذا على كل مسلم أن يتحمل تبعات ما يجري.
مما سبق يلاحظ الدور القيادي والحنكة السياسية التي كان يتمتع بهما الملك الراحل الحسن الثاني طيب الله ثراه، وهذه المنظمة والتي ستنبثق عنها فيما بعد لجنة القدس.
واستمر العمل السياسي المغربي الداعم لفلسطين بوتيرة متصاعدة لا تعرف الفتور ولا التراجع، وتكلل ذلك بالدعوة لقمة عربية في الرباط، فكانت القمة العربية الخامسة في الرباط بتاريخ 23/12/1969، ومن أهم مخرجاتها دعم الثورة الفلسطينية، وتوفير الإمكانيات المادية والسلاح اللازم في نضالها ضد العدو، وكذلك دعم الصمود في الأراضي المحتلة.
ثم توالت الأحداث وكانت حرب أكتوبر 1973، وشارك المغرب فيها بسرب من طائراته الحربية ولواء مدرع مساندة لأشقائه العرب في حربهم ضد الاحتلال الصهيوني لفلسطين، أما سرب الطائرات الحربية فقاتل إلى جانب القوات المصرية، وأما اللواء المدرع – الوحيد الذي يملكه المغرب في ذلك الوقت – فقد شارك على الجبهة السورية، واستبسل الأسود المغاربة في القتال، واستشهد 170 شهيداً من القوات المغربية، وللتاريخ أن يذكر مواقف الشرف والبطولة المغربية.
وواصل المغرب ممثلاً بجلالة الملك الحسن الثاني رحمه الله دعمه للعمل الوطني الفلسطيني وتأييده لمنظمة التحرير الفلسطينية، فكانت قمة الرباط في الثامن والعشرين من تشرين أول / أكتوبر من عام 1974، اعتمدت منظم التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب العربي الفلسطيني، وتبنت القمة قراراً يعترف لأول مرة بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني بموافقة جميع الدول العربية، وقد كان لهذا القرار وقع عظيم وامتنان كبير لجلالة المغفور له.
وتستمر الدبلوماسية المغربية ببذل جهدها خدمة لقضية فلسطين، فبمباركة من جلالة الملك وبدعم كبير من الدبلوماسية المغربية قام الرئيس الفلسطيني الراحل أبو عمار بإلقاء خطابه الشهير في الجمعية العامة للأمم المتحدة وذلك بعد شهر من قمة الرباط وبالضبط في 13/11/1974، والملاحظ أنه كان للمغرب الأثر الكبير على نجاح الدبلوماسية الفلسطينية، فقد كان له الحظ الأوفر من عدد القمم العربية والإسلامية المنعقدة فوق ترابه فيما يخص القضية الفلسطينية.
وقد قامت لجنة القدس التي تم إنشاؤها سنة 1975 وأسندت رئاستها إلى جلالة الملك الحسن الثاني رحمه الله بدور مهم في ذلك الحين في دعم صمود المقدسيين عن طريق خلق مشاريع حيوية تعزز صمودهم وتدعم احتياجاتهم الحياتية اليومية من دعم المدارس والمستشفيات والأوقاف، ولا ننسى دور الجالية المغربية في القدس وفلسطين.
جُماع القول هو أن المغرب وعلى مر العصور والأزمان وقف وقفة مساندة ورجولة إلى جانب إخوانه الفلسطينيين وعلى كافة الأصعدة، فعلاوة على الدعم السياسي – الذي تطرقت إلى النزر اليسير منه – هناك الدعم في البعثات العلمية، حيث تحتضن المغرب في كل سنة أكثر من 150 طالب علم فلسطيني ومن كافة التخصصات، ولا ننسى الدعم الطبي الذي قدمه وما زال يقدمه، والمشافي الميدانية التي تقيمها القوات المغربية المسلحة خدمة للفلسطينيين عقب الاعتداءات الصهيونية على قطاع غزة.
وقد جسد المغاربة تلاحمهم مع فلسطين بأن أطلقوا الأسماء الفلسطينية على الكثير من المساجد والشوارع حباً لفلسطين والقدس الشريف، فدور المغرب في دعم فلسطين يحتاج إلى دراسات معمقة وتحقيقات ميدانية كثيرة لكي يتم الإلمام بها.
ولأن هذا الدعم – الدعم المغربي لفلسطين – متواصل مستمر سأتطرق لدور صاحب الجلالة الملك محمد السادس في دعم القدس وصمود أهلها، فمنذ هبَّ الأقصى قبل أعوام – ولغاية كتابة هذه السطور – لم يتوقف المغرب عن مساندته ودعمه لإخوانه الفلسطينيين، فقد أرسل قبل عام شحنة من المساعدات الطبية والغذائية لأهالي غزة، وإنشاء ودعم المستشفيات وبناء كلية الزراعة، أما القدس سأكتفي بالقول أن البلد الوحيد الذي وقف وقفة الرجولة هو المغرب، ولا ننسى وصول وزير الخارجية المغربي إلى رام الله السيد ناصر بوريطه حاملاً رسالة من صاحب الجلالة محمد السادس نصره الله مفادها لمن يجيد القراءة بين السطور "نحن معكم" وللأمانة وللتاريخ للمغرب مكانته السامية في نفوس الفلسطينيين، فما من مدينة أو محافظة من محافظات فلسطين إلا وتجد فيها من السمات المغربية والآثار المغربية الخالدة فالأحباس المغربية تجدها في أكناف بيت المقدس منتشرة، وقف المصمودي، ووقف العلمي، ووقف أبو مدين الغوث، ومساحته 14000 هكتار حبسها على المرابطين المغاربة وزوّار المسجد الأقصى، والمكتبة الخالدية، وأما عن العائلات الفلسطينية التي تنحدر من أصول مغربية فحدّث ولا حرج، عائلة العلمي، وعائلة آل خضراء، وعائلة خيال، وعائلة سي سالم، وعائلة أبو رمضان، وعائلة نصر الدين، وكم من زوايا وطرق وقرى كان يسكنها المغاربة، وأما عن انتشار الزوايا الصوفية ومقامات الأولياء المغاربة، فما من مدينة أو محافظة إلا وتجد زوايا السادة المغاربة تنتشر في جميع ربوع فلسطين، وقد جاءتنا من خلال أولياء وعلماء مغاربة وقاموا بالتعاليم الإسلامية والإرشاد الصوفي ونشرمناهج التربية والسلوك، ومن أهم هذه الزوايا الشاذلية والدرقاوية والقادرية والتيجانية، أقامها الأولياء المغاربة وسندها متصل بشيوخها الأجلاء من السادة المغاربة، ومما يحتم الإشارة والإشادة به من صفحات التاريخ المشرف للمملكة المغربية ومواقف البطولة الإسلامية والتي تدلّ على ما كان يتحلى به جلالة الملك محمد الخامس طيب الله ثراه، وتغمده الله بواسع رحمته، من عمق المعرفة والفقه في الشريعة الإسلامية، بمواقفه الوطنية تجاه القضية الفلسطينية، ففي فترة الاحتلال الفرنسي المستعمر لبلاد المغاربة حيث كانت في حينها فرنسا تعتبر بلاد المغاربة ضمن حمايتها، فقد قامت السلطات الفرنسية برفع دعوى أمام المحاكم الإسرائيلية المحتلة بطلب ريع أحباس المغاربة التي احتلها الصهاينة في فلسطين، فحكمت المحكمة الإسرائيلية بدفع ريع أوقاف وأحباس المغاربة في فلسطين المحتلة إلى بلاد المغاربة وقامت سلطات المستعمر الفرنسي بتسليم ريع الوقف لبعض من بلاد المغاربة، فمنهم من قبل ريع الوقف، أما جلالة الملك محمد الخامس طيّب الذكر، اعترض ورفض بشدّة مخصصات المملكة المغربية من ريع أحباسها في فلسطين المحتلة، قائلاً هذه أرض مغتصبة محتلة، وما بني على باطل فهو باطل، ولو أخذت ريع وقفها من الاحتلال، أكون قد وافقتهم على احتلالها، موقف العالم بالفقه وأصوله وبالحلال والحرام، وليس بيننا وبينهم عقد استئجار، وإنما اغتصبوها بالقوة، فرفض قبول ريعها من الاحتلال مع حاجة الخزينة المغربية في حينها إلى المال قائلاً لهم: أنا لا أريد ريعها ممن اغتصبها واحتلها ولكن أريد تحريرها، ورفع يد المحتل عن أوقافنا وأحباسنا المغربية، هذه هي المواقف الخالدة لأمارة المؤمنين بالمملكة المغربية على مدى التاريخ وإلى يومنا هذا وإلى أن تقوم الساعة، فلا يستطيع أحد أن يزاود على هذه المواقف النبيلة والشجاعة، وقد ورث جلالة الملك محمد السادس نصره الله أمير المؤمنين هذه المكارم كابراً عن كابر، ومجداً عن ماجد، فرسخت بوجدانه فتشبّث بها المغاربة فكانت وما زالت وستبقى من ثوابت المملكة المغربية، وسيشهد التاريخ على مر الزمان أن مواقف أمارة مولانا أمير المؤمنين من الثوابت الصادقة والمخلصة تجاه قضيتنا العادلة، فلن يهادن أو يساوم عليها بأي حال من الأحوال، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.
حفظ الله مولانا أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس بما حفظ به آيات الذكر الحكيم وأيده الله بالنصر والتأييد وجعله الله خير خلف لخير سلف لآبائه وأجداده الملوك العلويين، الغر الميامين، وحفظ فيه مولانا ولي عهده الحسن وأنبته نباتاً حسناً مباركاً، وشدّ عضده بمولانا الرشيد وجعل الله المملكة المغربية في ظل سلطانه مملكة الأمن والسلام والاستقرار، وحفظ الله المملكة المغربية لصحرائها وحفظ الصحراء لمغربها، ونصلي معاً وسوياً في رحاب المسجد الأقصى ونعيد لحي المغاربة مجده ولباب المغاربة مكانته وتقرّ أعيننا جميعاً بتحريره.
والله من وراء القصد
وولي التوفيق
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أوكي..