التصوف المغربي: نماذج من التفاعل الإيجابي
الأنوال نيوز بقلم : د. خالد التوزاني
لا شك أن للتصوف المغربي إسهامات كبيرة في مجمل التحولات الفكرية والحضارية والمجتمعية التي عرفها المغرب عبر تاريخه الحافل بالمنجزات، حيث يشكل التصوف رصيدا ضخما من التراث اللامادي للمغرب، جدير بالاهتمام واستثمار ما يكتنزه من طاقات أخلاقية وجمالية في مواجهة تحديات العصر وزحف التيارات المادية وأزمة الأخلاق في كثير من المجتمعات المعاصرة.
إن التصوف المغربي بما عُرف عنه من قيم الوسطية والاعتدال ونشر المحبة والتسامح وقبول الاختلاف..، يمكن أن يشكل اليوم مدخلا لبناء مجتمع أخلاقي وكيان حضاري متجدد ومنتج لقيم النهوض والمواطنة، يحافظ على ثوابت الأمة الدينية والتاريخية، وفي الآن ذاته يساير العصر في المتغيرات. وسيقارب هذا المقال جوانب من التفاعل الإيجابي للتصوف المغربي من أجل إبراز إمكاناته في السياق المعاصر باعتباره قوة اقتراحية مهمة، وكذا خلق جسر تواصل مثمر بين التراث الصوفي المغربي والتحديات الراهنة لاستشراف حلول لواقع معقد ومتشابك.
إذا كان التصوف الحق هو "الأخذ بالحقائق، واليأس مما في أيدي الخلائق"[1]، فإن أهل التصوف بالمغرب لم ينشغلوا بالحقائق وترك العلائق، بل سعوا إلى إفادة الخلائق ونفعهم، ومن ثم، فإن تجليات تفاعل القوم مع قضايا مجتمعاتهم متعددة ، وتظهر أكثر في السلوكات العملية، وهو ما يؤكد تبني التصوف المغربي لمنهج القرب اقتناعا واختيارا، لا اضطرارا وتقليدا، ذلك أن الاحتجاج بالعمل أقوى في الدلالة من الاحتجاج بالنصوص، لأن العمل لا يقبل تأويلا. فما هي تجليات التفاعل الإيجابي للتصوف المغربي؟
1- تجليات التفاعل الإيجابي لصوفية المغرب:
يمكن الوقوف على نماذج من التفاعل الإيجابي عند صوفية المغرب من خلال الآتي:
1- الاندماج في المجتمع وخدمة الناس:
قد يوفق الإنسان المسلم بين الظاهر والباطن، فيقول إن الشريعة من غير الحقيقة رياء وكذب، وإن الحقيقة من غير الشريعة إباحة وفسوق، وقد يوفق بين الأمور الدنيوية والأمور الأخروية بمذهب جميل معتدل بين الطرفين، فليس الزاهد من لا يملك شيئا، بل الزاهد عنده من لا يملكه شيء، فهو مالك للدنيا غير مملوك لها بحال[2]. والظاهر أن هذا الوصف يكاد ينطبق على صوفية المغرب، فالشاذلي (أبو الحسن) دعا جهارا إلى التنعم بالملابس والمراكب وغير ذلك، وكان يلبس الفاخر من الثياب، ويركب الفاره من الدواب، ويتخذ الخيل الجياد[3]. وهذا الشيخ مولاي التهامي الوزاني –على الرغم من زهده وورعه- كان من كبار الأثرياء، حيث ورد في "تحفة الإخوان[4]" أن لهذا الشيخ أراضي فلاحية بقبيلة سطة كانت تستغل في زراعة الحبوب، وله أجنة وغراسات بوزان، وفي غيره، وأنه كان حريصا على توجيه أبنائه لتعاطي الأسباب حتى لا يقع لهم طمع في الناس[5]، بل بلغ الأمر أن عُرف بعض الصوفية المغاربة بالجود ونفع الناس، كالشيخ أبي العباس السبتي الذي بلغت شهرته في الكرم والسعي لمنفعة الناس عنان السماء، فمذهبه يتلخص في أن "الوجود ينفعل بالجود"[6].
كما كان لمؤسس الزاوية الوزانية الشيخ مولاي عبد الله الشريف من الأملاك ما سمح له بمتابعة دراسته بتطوان وفاس في ظروف مريحة؛ فأثناء مقامه كطالب بالمدرسة المصباحية كان يلبس الثياب الفاخرة كما كان يلبس العلماء بفاس[7]. وقد كان صاحب زاوية المخفية بفاس الشيخ أحمد بن محمد بن عبد الله معن الأندلسي[8] يتعاطى الأسباب الدنيوية إلى جانب تصوفه، "ولا سبب له سوى ما يتعلق بماله من أجنة ونحل ونحوها، فيكثر الذهاب لخارج المدينة لمناولة ما يحتاج له، ويباشر أمورها بيده، من زبر دوالي العنب وخدمتها، وتفقد النحل بعمل ما يصلح له، وقطع الشهد وعصره، وغير ذلك من أمور الحراثة وغيرها.. فلا يترك العمل إلا إذا لم يجد شيئا يصنعه"[9].
كان لابد للصوفي من امتهان مهنة أو حرفة يقتات منها مع التصوف، فالخلطة والكسب والأخذ بالأسباب الاجتماعية ضرورة دينية[10]. وقد اختلفت أساليب شيوخ التصوف في التعبير عن اندماجهم وخدمتهم للناس، فشاعت تقاليد إطعام الطعام، والتطوع لمساعدة المساكين بطرق مختلفة، وتدريس أبناء الفقراء، وممارسة التطبيب، والإصلاح بين المتخاصمين[11]، وتقديم ما يستطاع من نصح وعون لأفراد المجتمع، فمنهج الصوفية يقوم على أن يقابل الخير بالخير، وأن يقابل الشر بالخير أيضا، لأن الصوفي كالأرض يطؤها البر والفاجر، وهم بذلك يسهمون في استبدال إرادة الشر بإرادة الخير في الإنسان، وتخليق الحياة العامة، الشيء الذي عجزت عنه كثير من البرامج الإصلاحية[12]. وهم بهذا التوجه، إنما يقتدون بالسلف الصالح؛ فقد كان الصحابة علماء مجاهدين، وعلماء تجارا، وعلماء مزارعين، فلم يتفرغوا فقط للعلم الديني ولا الدنيوي، ولم ينصرفوا إلى الدنيا أو إلى الآخرة، بل جمعوا بين الحسنيين. وهو ما ينسجم مع مفهوم المواطنة الفاعلة والحكامة الجيدة التي تنشدها مجتمعات هذا العصر.
لم يكن خطاب صوفية المغرب جامدا على نفسه، أو منعزلا عن مجريات عصره، بل تبلورت مواقف أقطابه من التحولات التي شهدها الواقع، وفق رؤية موضوعية في الغالب، بحيث لم يركنوا إلى اعتزال هموم الناس، والاشتغال بالعبادة فحسب، وإنما اندمجوا في محيطهم الاجتماعي، وخبروا مشاكله بدقة[13]، فأسهموا في حل قضاياه، وتوجيه مسار الحياة وجهة سليمة.
2- نشر الإسلام :
انطلاقا من الوصف الرباني للأمة الإسلامية، في قوله تعالى: "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وسطا لتكونوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً"[14]. وانسجاما مع مفهوم الوسطية المقترن بالعدالة والخيرية، فإن هذه الآية تغني معنى الوسط بمعنيين إضافيين هما: شهادة الأمة على الأمم الأخرى، وشهادة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم على الأمة الإسلامية. ومعلوم أن العدالة هي شرط للشهادة، لذلك فالأمة الوسط هي الأمة المؤهلة للشهادة على الأمم، والعدل الذي يستلزم الشهادة على الناس، غايته تسمو فوق كل غاية، لأنه يرتبط بالآخرة، فهو بذلك يحمل الخير للناس، هذا الخير يتطلبه حمل الهداية إلى العالم. والخيرية هي صنو العدل، وهما معاً صفتان مطلوبتان للتبليغ، وللأمر بالمعروف وللنهي عن المنكر. ويعضد هذا المعنى قوله تعالى " كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ"[15]. وحيث إن التصوف يقوم على مبدأ المكارمة لا المحاسبة، أي اختيار الأفضل والأجود، فإن نشر الخير اختيار طبيعي لصوفية المغرب، وهل من خير أفضل من رسالة الإسلام ؟ فكيف عمل صوفية المغرب على نشر الإسلام؟ وكيف تجلى نفعهم للغير وهم ينقلون الخير للعالم؟
قام صوفية المغرب بجهود عظيمة في سبيل نشر الإسلام منذ القرون الأولى من عمر الإسلام إلى تاريخنا الحديث[16]. حيث رفعوا راية الدين، ودعوا إليه بصدق وإخلاص، ودافعوا عنه بكل وسيلة، فأينما حلوا كانوا يشيدون الربط والزوايا لنشر الدين والعلم ورعاية الفضيلة[17]. وهم ينشرون الإسلام بأساليب سلمية كالتجارة والتعليم، ويرسلون النجباء من تلامذتهم على نفقة الزوايا، إلى مدارس طرابلس والقيروان، وجامع القرويين بفاس، والجامع الأزهر بمصر[18] وغيرها، واستمر عطاؤهم إلى وقتنا الحاضر بتشجيع حفظ القرآن الكريم والعناية بتعليم الأيتام والمحرومين، بل وتخصيص مساعدات مادية للأسر الفقيرة، والسهر على تنظيم قوافل طبية، إلى غير ذلك من الجهود التي تعود بالنفع العام على عموم المغاربة.
لقد كان لصوفية المغرب الفضل في انتشار الإسلام بإفريقيا جنوبي الصحراء: السنغال، ومالي، والنيجر، وغينيا، وغانا، ونيجيريا، وتشاد، خصوصا الطرق التيجانية والسنوسية والشاذلية... ومرد هذا خصوصا إلى اختلاط الصوفية بالطبقات الشعبية في هذه البلاد بين العامة والفقراء، مما أبدى لهؤلاء نماذج حية تتصف بالتقوى والصلاح، إلى جانب ما تقوم به هذه الطرق، من خدمات اجتماعية، وألوان من البر والإحسان والمواساة والمؤاخاة[19].
يضاف إلى ما سبق، اعتماد صوفية المغرب لمنهج فريد في التربية وتقويم السلوك، يقوم على مبدأ التدرج والترقي حسب همة المتلقي وجهده، مع مراعاة حال المتعلم أو المريد، حيث يلاحظ وعي الصوفي المغربي بهذه الحقيقة النفسية؛ "فمن تصلح له الخلوة رباه بها، ومن تصلح به الخلطة رباه بها"[20]. وهكذا تجلى الاندماج الفاعل لصوفية المغرب وانخراطهم في قضايا الوطن والأمة، في مظهر من أسمى المظاهر الإنسانية، وهو نقل الخير للناس، أي نشر الإسلام، مع ما يقتضيه هذا النشر، من نشر لعلوم الدين واللغة والقيم ومكارم الأخلاق.
3- مقاومة الاستعمار :
على الرغم من أن رجال التصوف بالمغرب كانوا هم روح الجهاد المغربي[21]، إلا أنه تم وقوع نوع من التغاضي على المواقف الجهادية لفعاليات صوفية حية، قاومت التدخل الاستعماري بالمغرب[22]، وذلك لصالح الحركة الوطنية وجبهات المقاومة الشعبية. ومن ثم، لا يعرف الناس إلا النزر القليل عن إسهام صوفية المغرب في طرد الاستعمار الفرنسي. بل نجد أحيانا من يسيء لهؤلاء الصوفية باتهام بعضهم بموالاة المستعمر وترك المقاومة. والحال أن التصوف المغربي وفي لحظات الشدة، لم يكن ليركن إلى الرباط لختلي بنفسه فيه، بل كان يترجم معاني حبه لله في الارتكان إلى طلب لقائه عبر سبيل الجهاد، فكان طالبا للشهادة والذود عن العقيدة والوطن[23]، وتحريض باقي المغاربة على "تصحيح الأوضاع ومقاومة الأطماع"[24]، فكل ثائر كان وراءه صوفي، أو ينتمي إلى زاوية صوفية، كرائد من روادها، أو تلميذ من تلامذتها. ولقد بث الصوفيون في قلوب المغاربة شحنة لا تنفذ من الإيمان واليقين بنصر الله الذي لا يخلفه للمؤمنين المجاهدين الصابرين الثابتين[25].
بناء على ما سبق، ليس غريبا أن يكون الصوفية أول من قاوم التسرب الفرنسي في المغرب، ونستدل على ذلك بالحركة البودشيشية بزعامة المختار بن محيي الدين سنة 1907م، وحركة الهيبة ولد ماء العينين[26]، وغيرهما من الزوايا المغربية. غير أن القاسم المشترك بينها، يكمن في موقف الاعتدال والتوازن الذي اتخذته في مناهضتها للاستعمار الفرنسي.. حيث لم تقع في فخ الاندفاع والحماس الزائد، كما لم تساير بعض الحركات السلبية التي والت المستعمر[27].
هكذا، يتبين أن صوفية المغرب قد جمعوا بين السيف والمصحف، والعقل والعاطفة، وبين التسبيح في المسجد والبيت في ظلام الليل، والتكبير في ساحة الحرب والجهاد، لردع المستعمر ومقاومة الاحتلال. كما جمعوا بين الإشباع الروحي وتلبية المطالب المادية للمجتمع المغربي في أزمنة المجاعات والأوبئة، وحاربوا أهل البدع والضلالات، ليحافظوا على صفاء السلوك الصوفي ونقائه. وهي إسهامات جليلة تؤكد تفاعل الصوفية مع قضايا الدين والوطن والاندماج الإيجابي في الواقع بكل إخفاقاته وتشوهاته عبر اقتراح حلول وبدائل تعيد التوازن للمجتمع الجريح في أزمنة الفتن والشدائد، ليستمر العطاء مثمرا كذلك في أزمنة الازدهار عبر مواصلة البناء والإنتاج.
التصوف المغربي وآثار التفاعل الإيجابي
تحوَّل التصوف المغربي عبر تراكم إنجازاته وإسهاماته، إلى مؤسسة ذات "سلطة رمزية"، بفعل تفاعل الصلحاء والأولياء مع المجتمع، مما جعل الربط والزوايا من الثوابت الحضارية بالمغرب[28]. وقد شكلت هذه الزوايا فضاء لممارسة قيم الوسطية والمواطنة، ومن ثم، بروز تجليات أخرى من الانخراط الفاعل لمتصوفة المغرب في قضايا الدين والوطن أسهمت في الحفاظ على وحدة المجتمع المغربي وتماسك مكوناته وانسجام أفراده، حيث شكَلت هذه التجليات والآثار ثمارا لمنهج التصوف المغربي المعتدل والوسطي، وبرز بشكل جلي في ميادين عدة، خاصة في فضاء الزوايا، والتفاعل مع الذات، والآخر والمحيط. ويمكن توضيح ذلك من خلال الآتي:
1- الزوايا بالمغرب ثمرة للوسطية الفاعلة
على الرغم من الطابع العلمي للزوايا المغربية[29]، إلا أنها شكلت فضاء غنيا بالمؤشرات الدالة على حركية صوفية المغرب ونشاطهم، بل اعتبرت جزءا من الصوفي ذاته، فليست الزاوية مجرد بناية للذكر والصلاة والتربية.. وإنما هي تجسيد للصوفية، وثمرة للتصوف.
أدت الزاوية المغربية مهاما بارزة، حتى غدت جزءا لا يتجزأ من الواقع المغربي، فقد وفّرت الطعام أوقات المجاعات والأوبئة، وآوت الغرباء وأبناء السبيل، وقدمت الكساء للفقراء والضعفاء، ومنحت الصلات والعطايا للمحتاجين، ولبت دعوة المضطرين في طلب الغيث والعون، وعالجت المرضى، وسعت للصلح بين المتخاصمين، والشفاعة عند الحكام نصرة للمظلومين والمقهورين، وإحياء مجالات الأرض وعمارتها، وغرس الأشجار واستنباط المياه، والإشراف على أمن الأسواق ورعايتها، وتأمين حركة القوافل التجارية وتنظيم رحلات الحج إلى الديار المقدسة، كما عملت على إحلال السلم في المجتمع والحث على الجهاد واسترجاع الثغور المغربية.. حتى أصبح التصوف الإسلامي بالمغرب يشكل معادلة صعبة في خلق التوازن الاجتماعي وحماية الوطن وأبنائه.. وهي ثمار تجاوزت المتوقع والمنتظر من تأسيس الزاوية أول مرة، لكن سر نجاحها، يرجع لقوة منهج تعاملها مع الواقع والأشياء، ووضوح الرؤية لديها، من خلال الحرص على سلامة الأصول الأولى، وتبني مشروعا مجتمعيا طموحا وقويا، بدءا من التأسيس وانتهاء بالتوسع والامتداد.
يظهر أن التصوف المغربي قد حقق نجاحات متراكمة على مر العصور والأزمنة، في العديد من الميادين والمجالات.. ولذا فهو في مجمله فاعل ومؤثر ومنسجم مع واقعه، والمحمود لهذا النوع من التصوف، أنَّ له أثرا واضحا على عامة المغاربة، حيث ربطهم بدينهم، وقوَّم أخلاقهم، وانتشل من بؤر الفساد ودروب الضياع الكثير منهم.. وقد تغلغل في كل ميادين الحياة، ووصل إلى العامة والأميين، وخاطب غير المسلمين، حتى حقق نتائج ملموسة. فلا غرابة، أن نجد هذا الانتشار الواسع للزوايا بكل ربوع المغرب، وذلك التوقير والتبجيل للأولياء والصلحاء في القرى والمدن المغربية، وسر هذه المكانة يعود بالأساس للتاريخ المشرف لهذه الزوايا في خدمة المجتمع وقضاياه، تاريخ لم يكن ليسجل بالفخر والاعتزاز لولا منهج القوم القائم على نفع الخلائق وبذل الجهد في نشر الخير والتضحية في سبيل ذلك.
2- التفاعل مع الذات: تحقيق الكمال في الشخصية
إذا كانت الزوايا ثمرة لرؤية صوفية منفتحة على مجتمعها، فإنها ليست الثمرة الوحيدة لهذه الرؤية، حيث يسبقها النجاح الفردي في تحقيق التكامل الشخصي عند المتصوف. حيث إن تغيير العالم والتأثير في المحيط لا يقدِر عليه إلا من انتصر على نفسه وغيَّر ذاته قبل غيره، فبدَّل الصفات وحسَّن الأخلاق وصفَّى النيات، ذلك أن "الكمال والصلاح لا ينالهما إلا من كان وسطا بين طبيعة يابسة قاسية ولينة منقادة سلسة القياد لكنها غير ثابتة على ذلك بل سريعة الانتقال عنه، كثيرة التقلب، فمتى رزق العبد انقيادا للحق وثباتا عليه فليُبْشِر، فقد يُسِّر لكل خير"[30]. وكمال الشخصية يكمن في حسن اندماجها وتكيفها، من خلال تحقيق التوازن، سواء المجتمعي أو الفردي النفسي[31]، "فالإحسان مرتبة فوق العدل (...) إذ يراد به الإتقان في سلوك الخير، واختيار الأحسن في الأخلاق"[32] والأجود في المعاملات والأفضل في أنماط العلاقات، مما يجعل الإنسان يقترب من الكمال المنشود. وهذا النوع من الكمال لا يتحقق إلا ببلوغ الكمال في الشريعة وتحقيق مرتبة المكارمة لا المحاسبة[33]، وذلك بمراعاة عمل الخواطر قبل الجوارح ومراقبة النفس ودوام الإحسان.
لا يعني الكمال في الشخصية أن يكون الإنسان ملاكا، لكن الصوفية باعتبار همم العالية في نيل أسمى المطالب الممكنة، يميلون إلى أقصى ما يمكن إدراكه من الكمالات، لكن مع مراعاة مبدأ الخيرية والأجود من كل نوع من أنواع الترقي، لذلك نجد حضورا مكثفا للثنائيات الضدية والمتقابلات ضمن أدبيات المتصوفة. والجميل أن الصوفية خلقوا من تلك الثنائيات مزيجا منسجما ومتماسكا، حيث يحضر الطرف الأول ضمن الثاني، فيخدم أحدهما الآخر، وكأن الأول طريق للثاني، وهكذا نجد ثنائيات لا حصر لها، تحضر بشكل يفيد التكامل والتوازن الناتج عن التعامل الإبداعي معها من قِبل صوفية المغرب، كثنائية الدين والدنيا، والعقل والقلب، والروح والمادة، وحقوق الله وحقوق النفس.. "فالتزموا بعالم الآخرة ومسائل العبادة، قدر التزامهم بأمور الحياة والعمل"[34] والعلاقات الإنسانية، وأسهموا في تعمير الأرض، بامتهان الحرف والعمل الزراعي، محققين بذلك نجاحا في المزج بين كل الثنائيات الضدية، ومن ثم الاستفادة من كل الإمكانات المتاحة.
إن غاية التربية الصوفية هي بناء شخصية مسلمة سوية تجمع بين مطالب الدين والدنيا وعالم الغيب وعالم الشهادة، لذلك تتوخى هذه التربية تحقيق المقاصد الحقيقية التي جاءت بها الشريعة الإسلامية[35]، فالتصوف هو نظام أخلاق الإنسان الكامل[36].
3- التفاعل مع الآخر: نقل التجربة
ظل التصوف المغربي مرتبطا بالواقع متعايشا مع الآخر، متفاعلا مع آلامه وآماله، مبديا تعاطفه ودعمه، ومقدما الخير للجميع، مهما أبدى الآخر تنكره وجفاءه وإعراضه، عملا بالحديث الشريف: " الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم"[37]. يوجهه في ذلك، مقام الإحسان ومرتبة المكارمة، وهي معاني الخيرية والعدالة والشهادة، واختيار الأجود والأكمل، في الأخلاق والقيم والمعاملات..
ساعد المنهج الوسطي للتصوف المغربي على إحياء روح "التعاون" بين المغاربة، والاستفادة من "التعارف" مع غيرهم في إيصال الدعوة إليهم، و"الحوار" الإيجابي مع المسلم وغير المسلم، حيث "نجح هذا "الحوار" بسبب الاعتراف بالاختلاف بين الناس، والرغبة في إيصال الحق إليهم"[38]. فالتصوف المغربي نظرا لأصالته والتزامه بثوابت الشريعة الإسلامية وانفتاحه على الواقع، أثبت كفاءته في الحفاظ على توازن المجتمع، وتحقيق أمنه الروحي وكذلك المادي، وحقق نجاحات عدة. مما دفع دولا غربية إلى الاستعانة به في إصلاح مجتمعاتها، ودفع أخرى إلى التحذير من نجاحاته وخطر أسلمة أوروبا بواسطته، ودخل العديد منهم في الإسلام بسببه[39]. فالصوفي ينفع نفسه وغيره، بل هو –كما قال الجنيد- "كالأرض، يطؤها البر والفاجر، وكالسماء يظل كل شيء، وكالمطر يسقي كل شيء"[40].
يتبين، أن تفاعل صوفية المغرب مع الآخر، قد أسهم في نقل التجربة الصوفية، ليس لبقية المغاربة فحسب، ولكن نقل التصوف خارج الحدود، وانتفاع مجتمعات أخرى بفضل انفتاح الصوفية ومنهجهم الوسطي.
خاتمة
نخلص إلى أن التصوف المغربي قد اتخذ مسارات في التفاعل الاجتماعي بالغة العمق، وتمكَّن عبر إسهاماته المهمة في الحياة اليومية للمغاربة وتلبية حاجياتهم الروحية والمادية والنفسية.. من نحت مكانته نحتا عميقا، حتى تجذر في الهوية المغربية وشكَّل ركنا من أركانها، وجزءا لا يتجزأ من الخصوصية الدينية للمغاربة.
أسهم التصوف المغربي بفضل انفتاحه على خدمة قضايا المجتمع، في خدمة الدين والوطن وترسيخ قيم النهوض والبناء والإنتاج، وتجاوزت تأثيراته حدود الوطن ليسهم في نشر الإسلام، وتحقيق التوازن والانسجام بين مطالب الجسد والروح، ونبذ العنف والتطرف، والارتباط بالسياق الواقعي، حيث اتخذ من خدمة قضايا الإنسان حيثما كان شعارا له، مما عزز حضور التصوف المغربي في مجالات كثيرة وبيئات مختلفة، ويبدو جليا أن استثمار هذا الرصيد التاريخي والحضاري المتميز لم يرق بعد لانتظارات الديبلوماسية الروحية الموازية في سياق التحولات الكبرى التي يعرفها العالم المعاصر اليوم، من صراعات ومخاوف ومخاطر تهدد أمن الإنسان وتخلق لديه قلقا وجوديا، ومن الواضح أن التصوف المغربي بفضل أصالة منهجه يملك عناصر القوة للإسهام بفعالية في تقريب وجهات النظر واحتواء الأزمات واقتراح بدائل للصراع تقوم على الألفة والحوار وحسن الجوار والتعاون والتعارف، وغير ذلك من المعاني التي شكَّلت على مر التاريخ مصدر قوة المجتمعات وعليها قامت أسس الحضارات والأمم العظيمة.
الهوامش
[1] أبو القاسم القشيري، الرسالة القشيرية، تح: عبد الحليم محمود، ومحمود بن الشريف، مطابع مؤسسة دار الشعب، القاهرة، د.ط، 1989ص: 466.
[2] عباس محمود العقاد، التصوف، ضمن: التفكير فريضة إسلامية، عباس محمود العقاد، دار الكتاب العربي، بيروت، ط:2، 1971، ص: 159.
[3] عبد المجيد الصغير، إشكالية الفكر الصوفي في القرنين 18 و19، دار الآفاق الجديدة، الدار البيضاء، ط: 2، 1994، ص: 32.
[4] حمدون الطاهري الجوطي، تحفة الإخوان ببعض مناقب شرفاء وزان، دراسة وتحقيق: محمد العمراني، أطروحة جامعية لنيل الدكتوراه في التاريخ، كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، 2004، صص: 398-512.
[5] محمد العمراني، منهج التربية عند شيوخ الزاوية الوزانية، فكـر ونقـد، ع: 94، يناير 2008، ص: 119.
[6] ابن الزيات، التشوف إلى رجال التصوف وأخبار أبي العباس السبتي. تحقيق: أحمد التوفيق. منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط، 1984م. ص: 454.
[7] المصدر والصفحة نفسهما.
[8] ينظر ترجمته ضمن مقال محمد العمراني: التربية عند شيوخ الزاوية الوزانية، مرجع سابق، ص: 126.
[9] المرجع نفسه، ص: 121، نقلا عن: عبد السلام بن الطيب القادري، المقصد الأحمد في التعريف بسيدنا ابن عبد الله أحمد، المطبعة الحجرية الفاسية، 1932، ص: 99.
[10] عبد السلام الغرميني، الصوفي والآخر: دراسات نقدية في الفكر الإسلامي المقارن، نشر: المدارس، الدار البيضاء، ط:1، 2000، ص: 107.
[11] محمد المغراوي، ملامح من جذور التصوف بالمغرب، مـدارك، ع: 8، دجنبر 2007. ص: 12.
[12] عبد السلام الغرميني، الصوفي والآخر، مرجع سابق، ص: 157.
[13] عبد الهادي البياض، تجليات المقاربة الوسطية في منهج التكافل الاجتماعي لمتصوفة مغرب العصر الوسيط، ضمن: التصوف السني في تاريخ المغرب..، مرجع سابق، ص: 207.
[14] سورة البقرة، الآية: 143.
[15] سورة آل عمران، الآية: 110.
[16] أحمد ابن سودة، التصوف والجهاد من خلال طنجة، ضمن: مختارات للأستاذ أحمد لبن سودة، جمعها: عبد الحي حسن العمراني، الشركة السعودية للأبحاث والنشر، ط: 1، 1991، ص: 8.
[17] يوسف خطار محمد، السيرة المرضية في ترجمة مؤسسي الطرق الصوفية، مطبعة نضر، دمشق، ط:2، 1999، ص: 7.
[18] أحمد ابن سودة، التصوف والجهاد من خلال طنجة، مرجع سابق، ص: 9.
[19] المرجع نفسه، ص: 13.
[20] أحمد بن محمد ابن عجيبة التطواني، الفتوحات الإلهية في شرح المباحث الأصلية، تحقيق: عبد الوارث محمد علي، دار الكتب العلمية، بيروت، 2000، ص: 63.
[21] أحمد ابن سودة، التصوف والجهاد من خلال طنجة، مرجع سابق، ص: 227.
[22] أحمد التوفيق، معلمة المغرب، (مادة التصوف بالمغرب)، مطابع سلا، 1995، ص: 2395.
[23] عبد المجيد الصغير، تجليات الفكر المغربي: دراسات ومراجعات نقدية في تاريخ الفلسفة والتصوف بالمغرب، نشر: المدارس، الدار البيضاء، ط: 1، 2000، صص: 177-224.
[24] محمد حجي، المؤسسات الدينية بالمغرب في القرنين السادس عشر والسابع عشر، المناهل، ع: 18، س: 7، يوليوز 1980، ص: 113.
[25] أحمد ابن سودة، التصوف والجهاد من خلال طنجة، مرجع سابق، ص: 227.
[26] إبراهيم القادري بوتشيش، ثقافة الوسطية في التصوف السني بالمغرب، مرجع سابق، ص: 49.
[27] المرجع والصفحة نفسهما.
[28] سعيد بنحمادة، المجال الحيوي للأولياء بالمغرب: الأدوار الدينية والعسكرية والاجتماعية، ضمن: التصوف السني في تاريخ المغرب..، مرجع سابق، ص: 186.
[29] محمد حجي، المؤسسات الدينية بالمغرب في القرنين السادس عشر والسابع عشر، مرجع سابق. ص: 113.
[30] ابن القيم الجوزية، طريق الهجرتين وباب السعادتين، تحقيق: محمد أجمل الإصلاحي، دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع، مكة المكرمة، ط:1، 1429هـ، ص: 347.
[31] حوار مع الباحثة في علم الاجتماع: نعيمة شيخاوي، التصوف يخلق التوازن بين المجتمع والفرد، مـدارك، ع: 8، دجنبر2007.
[32] علي محمد محمد الطلابي، الوسطية في القرآن الكريم، مكتبة الصحابة- الإمارات، مكتبة التابعين- القاهرة، ط:1، 2001، ص: 464.
[33] عبد السلام الغرميني، الصوفي والآخر، مرجع سابق، ص: 25.
[34] إبراهيم القادري بوتشيش، ثقافة الوسطية في التصوف السني بالمغرب، مرجع سابق، ص: 49.
[35] عبد الله معصر، مقاصد التربية الصوفية، الإشـارة، ع: 12، نونبر 2000، ص:12.
[36] محمد أديوان، من الأخلاق اللاإنسانية إلى الإنسان الأخلاقي، الإشـارة، ع: 15، فبراير 2001، ص: 13.
[37] الترمذي، صفة القيامة والرقائق والورع (2507) ، ابن ماجه، الفتن (4032).
[38] عبد الله بن عبد العزيز اليحيى، الوسطية الطريق إلى الغد، مرجع سابق، ص: 65.
[39] ينظر كتاب: التصوف الإسلامي في الغرب: الأثر الصوفي المغربي في بريطانيا, الزاوية الحبيبية الدرقاوية نموذجا. تأليف: عزيز الإدريسي الكبيطي, منشورات المركز الأكاديمي للثقافة والدراسات المغاربية, الشرق أوسطية والخليجية. ط:1. 2008.
[40] أحمد بن عجيبة، معراج التشوف إلى حقائق التصوف، ضمن: شرح صلاة القطب بن مشيش، سلسلات نورانية فريدة، السلسلة الأولى، جم. وتق: العمراني الخالدي عبد السلام، دار الرشاد الحديثة، ط:1، 1999، ص: 69.
أوكي..