التمويل الاجتماعي الإسلامي ومعالجة الفقر
يمثل السابع عشر من أكتوبر يوما دوليا للقضاء على الفقر، وذلك وفق قرار صادر من الجمعية العامة للأمم المتحدة في ديسمبر 1992م. وقد صرح الأمين العام للأمم المتحدة السيد أنطونيو غوتيريش بأن جائحة "كوفيد 19" أزمة مزدوجة لأفقر الناس في العالم: وذلك لأمرين: أولهما أن لديهم أعلى خطر تعرض للإصابة بالفيروس، وأقل إمكانية للحصول على الرعاية الصحية الجيدة، وثانيهما أن التقديرات تشير إلى أن الجائحة قد تلقي بما يصل إلى 115 مليون شخص في براثن الفقر هذا العام، وهي أول زيادة منذ عقود.
ووفقا للأمم المتحدة، تنتمي الغالبية العظمى ممن يعيشون تحت خط الفقر إلى منطقتين: جنوب آسيا وأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى.
وغالبا ما توجد معدلات الفقر العالية في البلدان الصغيرة والهشة وتلك التي تعاني من النزاعات.
ويشير صندوق النقد العربي إلى أن نسب الفقر في الدول العربية وفق خطوط الفقر الوطنية تتراوح بين 4.8 في المئة في المغرب و48.6 في المئة في اليمن، كما يشير البنك الدولي إلى أن نسبة البطالة في الدول العربية بلغت نحو 10 في المئة، وهو ما يمثل نحو ضعفي معدل البطالة في العالم. ولا شك أن هذه النسب ارتفعت مع جائحة كوفيد 19.
إن مشكلة أي أمة تتلخص في الفقر والذي بدوره رفيق البطالة والجهل والمرض، لذا لم يكن من فراغ أن يستعيذ النبي صلى الله عليه وسلم بالله من الفقر: "اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر" (رواه أبو داود)، بل قرنه في تعوذه بالكفر، وهو شر يستعاذ منه لخطره، فالفقر المادي نتاجه فقر معنوي قد يوصل بصاحبه للكفر قولا أو انتحارا والعياذ بالله. وقد امتن الله على رسوله بقوله: "وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى" (الضحى: 8). كما أنه لا يوجد دين حارب من أجل الفقراء مثل دين الإسلام، فقد قالها أبو بكر الصديق - رضى الله عنه -: "واللَّهِ لأقاتلنَّ من فرَّقَ بينَ الصَّلاةِ والزَّكاةِ، فإنَّ الزَّكاةَ حقُّ المالِ، واللَّهِ لَئن منعوني عقالا كانوا يؤدُّونَه لرسولِ اللهِ - صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ - لقاتلتُهم عَلَى مَنْعِهِ" (رواه البخاري).
إن الفقر سبب كل داء من الناحية العقدية والخلقية والاجتماعية، وهو أكبر خطر على أمن واستقرار المجتمعات، وقد روى عن أبي ذر - رضى الله عنه - أنه قال: "عجبت لمن لا يجد القوت في بيته، كيف لا يخرج على الناس شاهرا سيفه؟ كما أن فراغ الجيوب يؤدي لانشغال العقول، وقد روى أن الإمام محمد بن الحسن الشيباني كان في مجلسه، وجاءته جاريته تقول: إن الدقيق نفد، فقال لها: "قاتلك الله، لقد أضعت من رأسي أربعين مسألة من مسائل الفقه"، كما روى عن الإمام أبو حنيفة أنه قال: "لا تستشر من ليس في بيته دقيق".
وإذا كان هدف كل حكم صالح بناء إنسان صالح يجمع بين حسنة الدنيا وحسنة الآخرة، فإن هذا الأمر يتطلب اقتحام العقبة، بتحرير رقبة الإنسان من قهر الرق والعبودية، وإطعام وقت الشدة والأزمة والحاجة أشد الناس حاجة: من يتيم ذي قرابة، أو مسكين أنهكه بؤسه وشدة حاله: "فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيما ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينا ذَا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ" (البلد: 11-18).. وكم من إنسان اليوم يعيش ذل الرق والعبودية من خلال الحاجة التي تقهره، والفقر الذي يهلكه، والبطالة التي تؤرقه، فلا أقل من فكه من الحاجة والفقر والبطالة بتمكينه اقتصاديا ليستغني عن غيره، ونقله من فضل إطعام الغير له إلى إطعام نفسه بل وغيره.
وكل هذا يبرز أهمية التمويل الاجتماعي الإسلامي باعتباره من أهم الوسائل الفعالة للمساهمة في تحقيق التمكين الاقتصادي والاعتماد على النفس والخروج من ذل الفقر والتبعية، بما يملكه من تنوع في أساليبه، سواء أكان تمويلا خيريا (غير ربحي) قائم على التبرعات والبر والإحسان، كالقرض الحسن والصدقات التطوعية والزكاة والوقف، أو تمويلا اجتماعيا بربحية متواضعة تراعي الجوانب الاجتماعية، وتسعى في الوقت نفسه لضمان استدامة التمويل، وذلك من خلال التمويل الاجتماعي بالمعاوضة، كالبيع الآجل وبيع السلم وبيع الاستصناع والتأجير سواء أكان منتهيا بالتمليك أو خدمات، فضلا عن الوكالة بالاستثمار، إضافة إلى التمويل الاجتماعي بالمشاركة كالمشاركة المؤقتة، والمشاركة المتناقصة، والمضاربة، والمزارعة، والمساقاة، والمغارسة.
فمن خلال ذلك يوفر التمويل الاجتماعي الإسلامي سبل التمويل اللازم للمشروعات المتناهية الصغر والصغيرة للفئات المهمشة والمحتاجة والعاطلة، مع إكسابهم المعارف والقيم والمهارات التي تؤهلهم للعمل، بما يحقق كفايتهم واستقرارهم المادي والنفسي، ومن ثم الانتقال بهم من دائرة الحاجة والاعتماد على الغير إلى دائرة الكفاية والاعتماد على النفس، ومن دائرة العالة على المجتمع إلى دائرة المساهمة في التنمية المستدامة.
أوكي..