انقلاب الجامعة العربية على ثوابتها
ما الذي حدث لجامعة الدول العربية؟ لماذا صمتها المريب ازاء قضايا العربية الراهنة برغم فداحة بعضها وأهمها خيانة قضية فلسطين المحورية من قبل حكومتي الإمارات والبحرين؟
والى متى سيظل الوضع العربي مرهونا بقرارات حكام لا يراعون مبادئ الأمة وثوابتها وكرامتها وتطلعاتها؟ منذ اكثر من شهر وغزة تتعرض لعدوان شبه يومي من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلية، أين هو الصوت العربي المجلجل والموقف الرادع للعدوان؟ لا يكاد يمر اسبوع بدون اعتداء إسرائيلي على جهة عربية: قبل بضعة ايام على منطقة حلب بالأراضي السورية وآخرها استهداف مواقع بمنطقة حلب، وقبلها اخترقت الأجواء اللبنانية، واستهدفت مواقع على الحدود العراقية. فأين هو موقف الجامعة العربية؟
كيف يسلّم نضال أمة استمر ثلاثة ارباع القرن بأيدي قادة فرضوا انفسهم بقوة المال والسلاح على الشعوب، حتى ارتكب بعضهم خيانة كبرى للقضية المحورية لهذه الامة؟ كيف تقبل أمة حكاما يستهدفون علماءها ونشطاءها بالسجن والتعذيب والاغتيال بأبشع الأساليب التي منها قطع الرؤوس والاوصال كما حدث للمرحوم جمال خاشقجي؟ لماذا الصمت على بقاء نشطاء مثل احمد منصور ومحمد الركن وسلمان العودة ولجين الهذلول ونسيمة السادة وحسن مشيمع وعبد الوهاب حسين في زنزانات التعذيب لأنهم عبروا عن آرائهم ومواقفهم بأساليب سلمية بعيدة كل البعد عن العنف؟
وأخيرا ماذا يعني رفض الجامعة العربية الحفاظ على ثوابتها إزاء القضية الفلسطينية وعلى رأسها رفض التطبيع مع الكيان الإسرائيلي؟ تساؤلات مشروعة يطرحها ذوو العقول والضمائر من العرب وغيرهم، مع علمهم انهم لن يحصلوا اجابات لها. فالأوضاع العالمية تمر بمرحلة من الاضطراب في غياب القيادة السياسية الفاعلة والفشل في السيطرة على الوباء الذي يزداد انتشارا ويهدد سكان هذا الكوكب. وفي غياب القادة التاريخيين في دول ما يسمى «العالم الثالث» لا يرى زعماء «العالم الحر» تحديات حقيقية برغم فشلهم في التعاطي الفاعل مع الوباء.
عندما كان الوعي الجماهيري العربي رقما صعبا في المعادلة السياسية لم تفشل مصر في اقناع الدول العربية بإقرار اتفاق السلام مع إسرائيل فحسب، بل طردت من الجامعة التي نقل مقرها من القاهرة الى تونس. اما اليوم فقد تفاعلت التطورات السياسية في ظل تغييب الشعوب وقمعها بأبشع الاساليب، وفي ظل اختراق إسرائيلي غير مسبوق، لتمكّن الاستسلاميين والانهزاميين والخونة من عنق الأمة التي قدمت الآلاف من الضحايا على طريق فلسطين. وقد جاء رفض الجامعة العربية إدانة التطبيع مع الكيان الإسرائيلي من قبل حكومتي الإمارات والبحرين صفعة قوية للقوى التحررية العربية التي كانت تأمل بحدوث صحوة ضميرية تفضي لتحول سياسي يعيد للأمة دورها المسلوب.
الواضح الآن ان هذا الدور لن يتبلور بعد ان اصبحت الامة بأيدي حكام مفروضين على الشعوب بدعم أمريكي مباشر. ولم يفاجأ الكثيرون عندما اعترف الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، انه «أنقذ» ولي العهد السعودي بعد جريمة قتل جمال خاشقجي 2018. ما ثمن تلك النجدة؟ مئات المليارات التي استلمها الأمريكيون من الخزانة السعودية، وربما مثلها من الإمارات تحت عنوان صفقات عسكرية مقبلة مزمعة. تشمل طائرات اف ـ 35. يضاف الى ذلك اصرار الأمريكيين على تثبيت موقعهم في المنطقة، بتوسيع قواعدهم العسكرية استعدادا لما يسمونه «التحديات الإيرانية». فالقضية المحورية في السياسة الخارجية الأمريكية خصوصا في الشرق الأوسط، ضمان أمن «إسرائيل» وتطور ذلك الهدف الآن ليشمل تطبيع علاقاتها مع الدول العربية. ويعتقد ترامب وادارته ان الظروف الحالية التي تشهد هيمنة سعودية ـ إماراتية على الوضع العربي العام، بعد تهميش الدول الفاعلة في الجامعة العربية مؤاتية لهجمة دبلوماسية غير مسبوقة.
عندما كان الوعي الجماهيري العربي رقما صعبا في المعادلة السياسية لم تفشل مصر في إقناع الدول العربية بإقرار اتفاق السلام مع إسرائيل فحسب، بل طردت من الجامعة التي نقل مقرها من القاهرة الى تونس
ليس جديدا ان لا تكون الجامعة العربية مؤسسة فاعلة على الصعيد العربي، فقد كانت كذلك منذ قيامها في العام 1945. فتاريخها الذي امتد 75 عاما ليس حافلا بالسياسات والمواقف الفاعلة. ولكنها كانت بشكل عام بوصلة للقضايا الاساسية التي تحظى باجماع عربي، وفي مقدمتها رفض الاحتلال الإسرائيلي او التطبيع معه، وتثبيت مبدأ مقاطعة الكيان على كافة الصعدان. وقد توازى وجود الجامعة تاريخيا مع قضية فلسطين التي حدثت بعد ثلاثة اعوام من تأسيسها، والتي اصبحت الدعامة الاولى لتماسكها ولو على الصعيد النظري فحسب. لم يعرف عن الجامعة فاعليتها في حل الخلافات البينية بين الدول العربية، ولا القدرة على منع الحروب او وقفها، ولا ترويج قيم الديمقراطية والعدالة والتمثيل السياسي واحترام حقوق الانسان. مع ذلك بقيت عنوانا جامعا للدول العربية، وملجأ في القضايا الخطيرة التي تواجه المنطقة. وتعبيرا عن الضمير العربي الذي كان يختلج في نفوس ابناء هذه الامة من شرقها الى غربها. ويمكن القول ان فلسطين وفرت اهم ثوابت الجامعة ومبادئها، فكانت سورا يلم الشتات ويمنع التشرذم. ولكن الامر تغير كثيرا في السنوات الاخيرة، ومن المؤكد ان لتراجع دور مصر خصوصا تحت حكم العسكر اثرا كبيرا في حرف مسار الجامعة التي اصبحت بشكل تدريجي تبتعد عن ثوابتها التاريخية وتخضع لسياسات المحور الذي تقوده السعودية في المنطقة ضمن محور قوى الثورة المضادة. ومن المؤكد ايضا ان العمل السري الإسرائيلي في العقدين الاخيرين أحدث اختراقات سياسية خطيرة لصالح «إسرائيل» ومهد الطريق لمسار التطبيع الذي انتهجته حكومتا الإمارات والبحرين. وثمة تساؤلات عن الدول الاخرى التي ستحذو حذوهما، مع ان هناك ما يشبه الاجماع ان السعودية ستفعل ذلك قريبا. وقبل اعلان التطبيع بين حكومة البحرين والكيان الإسرائيلي يوم الجمعة الماضية، ذكرت القناة الـ12 الإسرائيلية أن رئيس الموساد الإسرائيلي يوسي كوهين كان يجري اتصالات حثيثة مع كبار المسؤولين في البحرين، بهدف الإعلان عن الاتفاق وتنسيق التطبيع بينهما.
الأمر المؤكد ان الرئيس الأمريكي هو الذي يملي على هذه الدول مشروع التطبيع لعلمه بوجود ارضية لدى بعض الحكام العرب تتيح لهم تنفيذ اوامر البيت الابيض بدون مناقشة. ومع احتمال اعادة انتخاب ترامب لدورة رئاسية ثانية بدأ العالم يتوجس خيفة من توجه السياسة الأمريكية في عهده، وهي سياسة مقلقة للجميع خصوصا انها تأتي في ظل انتشار الوباء الذي يزداد انتشارا في غياب الامصال الواقية والعلاج. ولكن برغم ذلك فان السلام لا يمكن فرضه بالقوة على الطرف المظلوم. فتوقيع الاتفاقات وتطبيع بعض الانظمة مع الاحتلال شيء، وتوجهات الشعوب شيء آخر. فالعالم العربي لا يعيش استقرارا سياسيا حقيقيا ما دامت الشعوب مقموعة ومغلوبة على امرها. وكانت هبة شعب البحرين ضد قرار حكومته باهرا برغم سياسات الاضطهاد والقمع التي يتعرض لها، فقد اكتظت وسائل التواصل الاجتماعي بالانتقاد الشديد لها، وأصدر العلماء والمثقفون بيانات تندد بذلك، كما خرجت مسيرات احتجاجية عديدة ضد التطبيع في اليومن الاخيرين. اما غياب القوى العربية الكبرى عن الواجهة السياسية وتهميش دورها فلا يعني ان الوضع قد حسم لصالح التحالف السعودي ـ الإماراتي. فما أكثر المتغيرات في المنطقة، وما أكثر الأطراف الرافضة للتطبيع. ومن مظاهر الاضطراب استمرار الحرب السعودية ـ الإماراتية على اليمن وعدم قدرة هذا التحالف على حسمها بعد خمسة اعوام ونصف، وهناك قوى المقاومة التي تزداد غيظا بسبب تغول الطرف الإسرائيلي واستمرار عدوانه على غزة ولبنان وسوريا وعلى حدود العراق. يضاف الى ذلك تنامي التيار المعارض لتيار التطبيع، وهو امر مقلق للرياض وابوظبي والمنامة. ومع انه لا يزال محصورا برغبات وتوجهات عامة لدى دول مثل تركيا وقطر وإيران والعراق وسوريا، الا أن التوتر الذي ساد اجتماع وزراء الخارجية العرب يوم الخميس الماضي خلال مناقشة مشروع فلسطيني برفض التطبيع، مؤشر لإعادة رسم خريطة التحالفات في المنطقة بشكل مختلف تماما. فاذا كان مؤتمر كوالالمبور الإسلامي الذي عقد العام الماضي قد أقض مضاجع الرياض التي أطبقت على الجامعة العربية بالإضافة لهيمنتها على منظمة التعاون (المؤتمر) الإسلامي فان توسع دائرة المحور الإسلامي ـ العربي الجديد سيمثل زلزالا سياسيا واستراتيجيا مدمرا لمشروع التطبيع الذي يقوده التحالف السعودي ـ الإماراتي ـ البحريني.
أوكي..