التجربة الأخلاقية طريق إلى معرفة الخالق

الانوال بريس بقلم: الباحث فؤاد هراجة
ليس من العبث ان تشتق الأخلاق من نفس الجدر اللغوي لإسم الخالق، أي من مادة (خ-ل-ق)، وهو ما يدل أن مصدر الأخلاق إيجادا وإمدادا هو الله سبحانه، وأنه لما أراد أن يدل على نفسه أخبرنا سبحانه بأسمائه الدالة على أفعاله، ودعانا من خلال صفوة خلقه من الأنبياء أن نتخلق بما يجوز في حق البشر من صفاته وأوصافه.
لقد أَمَدَّ الخالق سبحانه خلقه ببعض صفاته، وجعلها جائزة في حقهم، ومنها صفات المحبة والرحمة والعفو والرأفة والكرم والعلم والحِلم والود واللطف والقوة والصبر... . ولعل القصد من هذا الإمداد أن يتعرف كل صاحب قلب على حقيقة الأوصاف الإلهية وأن يتبين كل عاقل الحكمة من كل الأفعال الربانية.
فعندما يتَشَرُّبُ المرء هذه الأخلاق ويَتَمَثَّلُهَا ويتذوق كُنْهَهَا، ينقشِعُ نور البصيرة من قلبه لينير ويكشف له الطريق الموصلة إلى معرفة الله سبحانه. وقد يتساءل القارئ كيف يتسنى للمتخلق بالأخلاق المذكورة ان تكون له بابا لمعرفة الله سبحانه؟ والجواب أن المرء مثلا عندما يتمكن الحب او المحبة من قلبه، تراه يجود على المحبوب ويجزل له العطاء، ويتجاوز عن نقائصه، ويعفو عن زلاته ، ويصبر على جهل المحبوب بقدر المحبة المحاطة به، والمكانة التي يتبوؤها لديه. قد لا يدرك الإنسان كل هذه المعاني في علاقته مع الله إن لم يعشها ويتذوقها في حالته البشرية مع أقرانه من بني البشر. أما إن هو بلغ مقام المحبة والصبر والعفو والكرم...، فحتما سيَعْبُرُ من تجربته الذاتية إلى حقيقة محبة الله لخلقه وصبره عليهم. فالله سبحانه المحب لخلقه، لا يتعجلُ الفاسق أو الفاجر أو الظالم أو الكافر بالعقوبة، ونحن كبشر قد نتعجّب كيف يمهل الله عزوجل هذا الإنسان الظالم وهو يعيث في الأرض الفساد، ولو حُكِّمْ بعض الناس في رقاب البشر لأفنوا الحياة منذ زمان. وتأمل فيما وقع لسيدنا إبراهيم مع ربه في قوله تعالى:
"وَكَذَٲلِكَ نُرِي إِبۡرَٲهِيمَ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَلِيَكُونَ مِنَ ٱلۡمُوقِنِينَ".
فعندما أراه الله سبحانه وتعالى الملكوت، وكشف له الحجب، فرأى الخليل عليه السلام ما لم يره في حياته البشريه، رأى إنسانا ظالما يضرب يتيما, فقال له: يا ظالم ! أما في قلبك رحمة؟ أتضرب اليتيم الذي لا ناصر له الا الله؟ اللهم أنزل عليه صاعقة من السماء, فنزلت عليه صاعقة.
ورأى عليه السلام لصا يسرق مال أرملة وأُمٍّ ليتامى، فقال: يا رجل! أما تجد إلا هذا؟ اللهم أنزل عليه صاعقة، وتكررهذا. فقال الله سبحانه وتعالى لخليله عليه السلام:
"يا ابراهيم أأنت خلقتهم؟
فأجابه عليه السلام : لا يا رب
فقال الله عزوجل: "لو خلقتهم لرحمتهم، دعني وعبادي، إن تابوا إليَّ فأنا حبيبهم، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم، وأنا أرحم من الأم على وليدها.
لقد كان سيدنا بلال بن رباح أعبد الناس لأنه عاش وتذوق قبل إسلامه كل معاني طاعة العبد لسيده، فلما أسلم عَظُمَ شأن الله في قلبه وكان يستجيب لأمره ونهيه على أنه السيد المستحق للإستجابة. وليس من العبث أن يرعى معظم الأنبياء الغنم ليدركوا عظمة الخالق الذي يدبر كل هذا الوجود.
إن كل تجربة نمر بها في حياتنا، هي تجربة أخلاقية، على كل عاقل أن يروغ إليها ويتأملها ليتجلى له الله فيها وهو الظاهر الذي لا يحجبه شيء. ألا نرى أن الله قرن في كتابه الحكيم خُلق الإحسان إلى الوالدين بعبادته وتوحيده! قال سبحانه: "وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا". فمن لم يشعر بفضل الوالدين عليه في الوجود كسبب مادي محسوس ، أنّى له أن يدرك فضل الله الذي أنعم عليه بنعمة الإبجاد والإمداد وهو غيب يدرك الأبصار ولا تدركه الأبصار.
إن التجارب الأخلاقية في حقيقتها، الإيجابية منها أو السلبية، سوانح وعنوانات تدل على الله؛ فعندما تخطئ مرة واحدة في حق إنسان فتطلب منه العفو ويرفض، ترى الله من خلاله كم في الزلات وقعت، وكم من الذنوب اقترفت وهو صبور عليك يقبل توبتك ويقول لك فيما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: قال الله تبارك وتعالى: (يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة) رواه الترمذي.
لو بلغت ذنوبك عنان السماء!
تخيل معي حجم هذه الذنوب الممتدة من الأرض إلى السماء
والزمن الذي استغرقته، لا يبالي بها الله أمام حركة اللسان المستغفر والقلب المنيب. ما أحوج البشرية إلى معرفة الله والتخلق بصفاته التي تتفرع كلها عن صفة المحبة لتحمل وتترجم جزءا منها. وعليه فمن أخطأ طريق المحبة، أخطأ طريق الأخلاق كلها، وأخطأ من ثَمَّ الطريق إلى معرفة الخالق سبحانه!
أوكي..